فصل القوات.. مبدأ استراتيجي نعلمه منذ زمن، وربما يكون مفيدا في حالات معينة، لكن هل يصلح هذا المبدأ لإدارة الأمور العائلية بنجاح؟ أشك في هذا.. وتلك هي قصتي... أنا شاب في منتصف العشرينات، تخرجت في احدي كليات القمة وأعمل في مركز مرموق، حسن الخلق والتربية كما يقولون عني، لديّ قيم ومباديء أتمسك بها ولا أحيد عنها، لكن مشكلتي في الحياة هي أبي. يقولون إن كل الآباء عصبيون، يثورون لأتفه الأسباب وينفعلون من أجل لا شيء، ويحتاجون إلي طريقة خاصة في المعاملة، هي مزيج من الهدوء والصدق والثقة بالنفس، لا سيما مع تقدم الآباء في السن، وإلا لن تكون العواقب حميدة. من جانبي أستطيع أن أتعامل مع والدي بالطريقة التي ترضيه، فأنا وهو صديقان.. أستطيع أن أمتص غضبه من أي شيء، وأن أتجنب الصدامات معه، ربما أكون قد حفظته عن ظهر قلب، وهذا هو السبب في علاقة الصداقة التي تجمع بيننا.. نصطدم أحياناً، لكنني أتعامل معه بالشكل الذي يرضيه، أو بمعني أصح: أريحه. لكن المشكلة أن باقي أعضاء أسرتي أصبحوا غير قادرين علي التعامل معه، قد يكون ذلك لأنهم لا يجيدون ذلك، أو لأنهم لا يفعلون مثلما أفعل، وبالتالي تكثر المصادمات والمشاحنات بينهم، حتي فضلوا أن تكون معاملاتهم مع أبي سطحية، دون خوض في نقاشات أو قضايا مصيرية. إنها حالة »العلاقة واللا علاقة« إن صح التعبير، أبي في وادٍ وباقي أسرتي في وادٍ، هذا الحل يريح الطرفين كثيراً ويجعل البيت هادئاً، لكنه لا يرضيني علي المستوي الشخصي، ولا يرضي أحداً كما أعتقد، فنحن أسرة ولسنا في ثكنة عسكرية تفصل بها القوات عن بعضها. أبي عنيد وصلب القرار، ومع أول صدام بأحد ينفعل عليه، وإن كان صاحب حق فإنه يضيع حقه بصوته العالي وصرامته، وربما يتجاوز في إهانة من أمامه إذا احتد النقاش أكثر من ذلك. ومن ناحية أخري، فإن شقيقي الأكبر علي سبيل المثال، لا يستطيع التعامل معه، ويضع نفسه في مرتبة مشابهة لمرتبته، وغالباً ما يرفض التنازل عن حقه من أجل أن تمر الأمور بسلام، وبالتالي فإن الصدامات بينهما عنيفة، لذلك قررا أن تكون العلاقة بينهما فاترة إلي أبعد حد. لا يكره أحدهما الآخر، لكنهما كزملاء العمل، التعامل بينهما رسمي، وهذا يحزنني بشدة، ويجعل بيتنا جحيماً رغم هدوئه! الحزين »ف« الكاتبة: أنا معك تماماً فالبيت لا ينبغي أن يتحول إلي ثكنة عسكرية، والعلاقات العائلية بين أفراد العائلة الواحدة لا يفترض أن تتشكل طبقاً لاستراتيجية، وتسير وفقاً لخطوط رسمية!! البيت هو الواحة.. الملاذ.. الدفء المفقود خارجه.. نسمة الهواء الباردة في عز الصيف. البيت هو الراحة.. التلقائية.. الإنسانية. أن يكون الإنسان علي طبيعته.. بلا تكلف.. بلا تصنع.. بلا أقنعة.. يتكلم وقتما يحب ويصمت وقتما يحب. يأكل أو يصوم. ينام أو يصحو. يشاهد التليفزيون أو يقرأ كتاباً أو لا يفعل شيئاً علي الإطلاق! البيت معني وليس جدرانا. البيت نبض.. احساس.. ذكريات.. عمر. لذلك فهو كائن حي يعيش مع أصحابه حياتهم، يمنحهم المأوي والدفء والراحة، ويمنحونه أنفاسهم.. نبضاتهم.. أنينهم.. ضحكاتهم.. ويبثونه أدق أسرارهم! هذا هو البيت كما أشعر به، وكما تحدث عنه كبار الأدباء والفلاسفة والشعراء. إذاً.. فالموقف مؤلم.. بل غاية في القسوة بالنسبة لك، وأنت تري هذا التباعد الإنساني بين أفراد أسرتك والسبب الأب العصبي، القاسي، العنيد، الأناني، المعتد بآرائه علي حساب الآخرين!! والنتيجة أن يعيش أفراد البيت الواحد وكأنهم يقيمون في جزر منعزلة، وأن تتألم أنت لهذا الخصام النفسي والفكري بين والدك وأخيك الكبير الذي يصر كل منهما أن يكون له كلمة في البيت، وفي قرارات الأسرة. معك حق في أن الوضع هكذا صعب ومحبط، لكننا ياعزيزي لا نملك أن نغّير الآخرين إلا بقدر ضئيل مهما تعاظمت محاولاتنا، خاصة إذا كانوا كباراً في سن والدك. تسألني: وما العمل؟ أعتقد أن عليك أن تتحدث مع أخيك الأكبر، وتقترب منه إنسانياً أولاً، وتحثه علي التعامل المتفهم لطبيعة الأب القاسية، والتزود بأقصي قدر من المرونة معه. فقدأوصانا الله بالوالدين.. خاصة في كبرهم وضعفهم. حاول أن تكون حمامة السلام في هذا البيت المحروم من الحب. وأن تحث أخاك علي فعل نفس الدور باعبتاره الكبير. وهذا دوره أن يقوم بما ليس في مقدور الأب أن يقدمه لعائلته الصغيرة وأهمه: الحب!