محمد فهمى أتحسس تليفوني المحمول.. وأحسد موسيقار الأجيال عبدالوهاب الذي كان يكتفي بالمرور علي بيت الحبايب.. ويتباهي بأنه قد مر علي بيت حبيبة القلب.. دون أن يعطيها »رنة«! أصبحت اتحسس تليفوني المحمول كثيرا.. أمد له يدي.. واتأكد انه يعمل.. وان الشبكة سليمة.. وانه لايزال علي قيد الحياة.. وانني استطيع بلمسة واحدة الاطمئنان علي من احب.. واعرف اخر تفاصيل التشكيل الوزاري! لا استطيع الحياة بلا تليفوني المحمول.. ولا اتصور شكل الحياة قبل ان يدخل المحمول جيوبنا.. ويغير نمط حياتنا.. وعلاقاتنا.. وينقلنا من عالم تحت الارض الي عالم فوق الارض!. كيف كان اجدادنا.. يمارسون الحياة بلا محمول.. كيف كان الحب علي ايامهم.. هل كان المكتوب علي العاشق ان يقطع المسافة من السيدة لسيدنا الحسين.. مرتين يوميا.. سيرا علي الاقدام »طبعا«.. كي ينول كل الرضا.. وليس جفن الرضا؟. كيف كان حال الارصفة.. زمان.. وهل كانت ارصفة آدمية تسمح للعاشق القادم من حي السيدة ان يصل لسيدنا الحسين.. مرتين.. يوميا.. وان يبقي علي قيد الحياة؟. هل كانت الارصفة في تلك الايام.. تحتمل مسيرات العشاق الذين يتنقلون بين الاحياء.. بآلالاف.. هذا ذاهب.. وهذا عائد.. كالشهيق والزفير! هل كانت الارصفة عالية جدا.. علي نحو ما نراه الآن بحيث يستطيع العاشق المتيم.. ان يصعد فوقها.. او ان يفكر آخر في القفز من فوقها للتخلص من الحياة؟ انني اتحسس المحمول.. واحسد المطرب الرائع عبدالمطلب علي صحة وشباب جيله.. كما احسد موسيقار الاجيال عبدالوهاب الذي كان يكتفي.. بمجرد المرور علي بيت الحبايب ويتباهي وكأنه سعد بن ابي وقاص.. بعد ان فتح القادسية بأنه قد مر.. علي بيت الحبايب!! كان عبدالوهاب يمر فقط.. وهو ما يقال له بلغة هذه الايام »اعطاها.. رنة«! هو لم ينطق بكلمة.. وهي لم تره.. ولكن سعادته كلها.. كانت في انه بات يري.. ما تراه حبيبة القلب.. وهذا يكفي! هكذا كان الحب.. قبل المحمول!
في سنة 1965.. ضحكت كثيرا.. وانا اقرأ فكرة التي كتبها الراحل العظيم علي امين ونشرت في اول ابريل 1965. يقول علي امين: لن تضيع وقتك في انتظار مكالمة تليفونية.. ولن تجلس الساعات الطويلة في بيتك او مكتبك تنتظر مكالمة تليفونية من لندن او موسكو او باريس. ستضع عدة التليفون في جيبك وتخرج الي الشارع.. وفي اثناء سيرك في الشارع.. او وانت جالس في الاتوبيس ستسمع رنين جرس التليفون.. وستخرج عدة التليفون من جيبك وتتلقي المحادثة التليفونية! ان تليفون الغد في حجم علبة السجائر.. وهو تليفون بلا اسلاك! انه تليفون جيب.. تضعه في جيبك مع الولاعة والمنديل وعلبة السجائر.. ولن يقول لك احد.. الدكتور خرج.. لان تليفون الطبيب سيخرج معه.. وسيذهب معه في زيارة كل المرضي والي المستشفي والعيادة! ويقول علي بك: وسيتطور تليفون الجيب.. لن تسمع صوت محدثك فحسب وانما ستري صورته وهو يتكلم.. وليس في التليفون الجديد قرص تديره باصبعك.. لان ادارة القرص تتطلب جهدا.. ولذلك فان في التليفون الجديد عشرة ازرار.. تضغط عليها باصبعك فتحصل علي النمرة! وستطلب النمرة مرة واحدة.. فاذا كان الخط مشغولا فان الازرار ستحاول الحصول لك اوتوماتيكيا علي النمرة المطلوبة حتي يخلو الخط التليفوني.. وعند ذلك تسمع ردا خفيفا لينبهك الي ان النمرة التي طلبتها في انتظارك! وستبدو لك الدنيا غدا بانها مليئة بالمجانين. فانك ستلاحظ في المستقبل أن كل المارة في الشوارع يتحدثون مع انفسهم.. والواقع انهم يتحدثون في التليفونات.. وحتي الذين لا يحملون تليفونات سيحركون شفافهم اثناء سيرهم في الشوارع ليوهموا الناس ان عندهم تليفونات! الله يرحمك يا علي بك.. لقد كنت سابقا لعصرك.
لا استطيع الحياة.. بلا تليفوني المحمول.. ولا من رسالة وصلتني علي المحمول من الزميلة حنان فكري مقررة اللجنة الثقافية بنقابة الصحفيين.. لحضور حفل خاص لتكريمي باعتباري من مواليد برج الحمل! والحصول علي شهادة تقدير مع ارق امنياتها ودوام الصحة! للوهلة الاولي تصورت انها كذبة ابريل.. ولكنني تأكدت من رقم محمول الزميلة حنان.. وتأكدت انها لا تكذب فتوكلت علي الله وتوجهت للنقابة في الموعد الذي حددته الزميلة التي تضرب بها الامثال في استنفار الهمم! اتخذت مكاني بالصف الاول.. وجلست خلفي زميلة لم تكف عن التصفيق لحظة واحدة.. وهي تهتف »يسقط.. يسقط.. حكم المرشد«! في الوقت الذي وصلت فيه المطربة الرائعة عزة بلبع لاحياء حفل التكريم.. ولأكتشف ان لديها من منجزات العلم والتكنولوجيا ما هو اهم واخطر من تليفوني المحمول!
جاءت عزة بلبع.. بلا فرقة موسيقية.. ولا الات ولا معدات.. وليس معها سوي جهاز صغير داخل حقيبة.. تضعه امام مكبر صوت فتصدر عنه الموسيقي الخاصة بالاغنية والتي يمكن ان تصدر عن فرقة موسيقية كاملة.. وبلا مايسترو ولا مساعدين ولا كورس.. ولا يحزنون. وغنت عزة بلبع وامتعتنا.. بأغانيها الوطنية التي اشعلت الحماس في قلوب الحاضرين وفي مقدمتهم الزميلة التي جلست خلفي مباشرة.. والتي قادت الهتاف بسقوط حكم المرشد.. وكانت بذلك سابقة لعصرها وزمانها.. بالسبق الصحفي الذي احرزته في تلك الليلة!.
التليفون المحمول.. وما صاحبه من تطور علمي قضي علي الطرب وعلي نظم الحكم التي كانت سائدة ايام »امينة شخلع« و»سيدة اللاوندية« وقضت علي افكار الزعامة السياسية بالضحك علي العقول والذقون.. وقضت علي المواصفات القديمة لقادة الدول وكبار المسئولين ممن ادار شئون العباد.. واصبح العالم قرية كونية.. تحكمه ثقافة متقاربة.. وتستطيع نصف البشرية مشاهدة صورة لالقاء مواطن من فوق سطوح عمارة بالاسكندرية.. او صور التمثيل بالجثث وشق البطون.. او صور جماعات اسلامية تهاجم معسكرات جيوشها.. وتقذف ضباط جيوشها بالقنابل وتستطيع البشرية كلها ان تتساءل: هل هذا هو الاسلام؟
التليفون المحمول غير وجه العالم.. واصبحنا نعيش في عالم جديد.. واجيال جديدة.. تنتمي لمنجزات العلم والتكنولوجيا وتفكر باساليب عصرها وزمانها.. عصر ما بعد الديمقراطية! لم يعد من الممكن صعود حاكم لسدة الحكم بالخطابات الحماسية والشعارات الدينية.. وحشد البؤساء والفقراء والتلويح بالسيوف.. وموائد الرحمن. نحن في عالم جديد.. تحكمه منجزات العلم.. ولا مكان فيه لارباب الجلاليب البيضاء التي تضيق عند المؤخرة! واعود لأتحسس تليفوني المحمول.. واتذكر هذه الحكاية. في منتصف ثمانينيات القرن الماضي كنا في جنيف.. لتغطية اول لقاء واول مصافحة بين الزعيم السوفيتي جورباتشوف والرئيس الامريكي ريجان. الزميلة مها عبدالفتاح وانا. وكنا في فندق انتركونتننتال وفي احد الايام كانت الزميلة مها في كابينة التليفون الزجاجية.. تملي ما لديها من اخبار للزملاء بصالة التحرير بالقاهرة.. وكنت في انتظارها.. خارج الكابينة لأملي ما لدي من اخبار عندما جاءني الزميل حمدي فؤاد.. وهو المحرر الدبلوماسي اللامع لجريدة الاهرام.. ضاحكا وساخرا ومتسائلا: انتو لسه بتملوا الاخبار بالتليفون؟ تطلعت اليه في دهشة بالغة وعدت اسأله: امال هنبعت الشغل ازاي؟ اجاب رحمه الله: اشتروا لكم فاكسيميلي! انفجرت ضاحكا.. ومتسائلا من جديد: ايه ده.. بيعمل ايه؟ اجاب: تحط الورقة هنا.. تطلع في مصر! ضحكت من كل قلبي.. وانا اسأله عن المكان الذي يضع به الورقة.. وارتفع صوت الاسئلة الضاحكة والاجابات الساخرة.. وخرجت الزميلة مها عبدالفتاح من الكابينة في اللحظة التي اتجهت نحوها لالتقاط السماعة لاملاء ما لدي من اخبار.. وبادرتنا بالسؤال عن سر هذه الضجة والضحكات العالية.. فقلت لها: ده بيهرج.. بيقول يحط الورقة هنا تطلع في مصر.. تلاقيه مش لاقي شغل يبعته! ودارت الايام.. واصبح الفاكس في كل المكاتب والبيوت.. واختفت ثقافة »الاملاء« في بلاط صاحبة الجلالة.. واصبحنا نعيش عصر مدينة الانتاج الاعلامي بكل ما تضمه من اجهزة العصر.. تحاصرها مجموعة من المخلوقات التي تنتمي لعصر ما قبل الفاكس.. سبحان الله.
قرأت في الصحف ان الخوف من عدم وجود الهاتف المحمول.. هو مرض نفسي اطلقوا عليه »نوموفوبيا« وقالت ان العلماء اكتشفوا هذا المرض سنة 2008.. ونقلت عن الدكتور لطفي الشربيني ان المرض الجديد يعني اصابة الاشخاص بالتشوش الذهني.. والاضطراب الواضح عندما تنقطع عنهم التقنيات الحديثة! وقالوا ان فقدان الهاتف المحمول يعني فقدان واحد من اعز الاصدقاء.. الذي يقضي معه اطول وقت في حياته، وتزداد الحالة سوءا اذا كان للشخص الواحد اكثرمن محمول والعياذ بالله! اتمني ان يأتي اليوم الذي تصدر فيه الفتاوي بتحريم تعدد الهواتف.. هاتف واحد يكفي!.