لم تكن مسيرة التاريخ الإنساني في أمدها الطويل بل وعلي صعيد كافة الرؤي النقدية والسياسية والفلسفية إلا رهنا بكم الثورات المخترقة لتلك المسيرة, والمعوقة لحركتها التقليدية, والدافعة في الأن ذاته نحو مسارات تقدمية ممثلة لمعني الاستنارة في مجمل أعماقه ودلالاته, من ثم لم تكن الثورات الثقافية والفكرية أو السياسية أو حتي الثورات الأجتماعية تستهدف إلا تحرير الإنسان من أسر المستعمر ومن أسر الجهل والخرافة والخوف والمرض, ذلك أن الثورة تشتق اسمها من مضمونها ومحتواها وأنها لا تعني إلا إحداث التغييرات الجذرية وليست التغييرات العارضة والتحولات الكبري وليست النقلات الرتيبة. ولقد جسدت الثورات الكبري الكثير من معاني التمرد النبيل ودفعت أثمانا باهظة إقرار للديمقراطية الحقة وتكرسا لكل حق من حقوق الإنسان وتواصلا مع أشواق الحرية من ثم خلقت أفقا إيجابيا مغايرا لفضاءات ذلك الزمن المفقود من حياة الشعوب. ولقد أثارت الثورة المصرية في الجموع العريضة إعجابا وفتونا بشعاراتها عن الحرية والاشتراكية والوحدة وباتت الجماهير سادرة في توهمات اليوتوبيا العلوية حتي استبانت الرشد ضحي الغد حين أطيح بالحرية في ابسط معانيها وأعمقها وأصبحت الجرائم ترتكب باسمها تحت رايات الاعتقال والتعذيب والمحاكمة وسبل الاستدلال علي ذلك متعددة تكفي فيها الإشارة إلي توصيف السادات وتقيمه الذي يحمل مصداقية عليا لتجربة الثورة فهي في رؤيته: انحسار, وهزائم, ومرارة, وألم, وتمزق, وعصف بكيان المواطن, وإهدار لكرامة الإنسان. وكذلك لم تكن رؤية قائد الثورة الأول محمد نجيب بأفضل من تلك التي كانت إذ قال: وعرفت كم كانت جريمة الثورة في حق الإنسان المصري بشعة وعرفت أيضا أي مستنقع ألقينا فيه الشعب المصري.. فقد حريته.. فقد كرامته..... فقد أرضه وتضاعفت متاعبه. أما اشتراكية الثورة فلا معني الآن للخوض في تفصيلاتها وقوانينها ووسائل تطبيقها لأنها في كليتها لم تكن إلا اشتراكية الصنم أي اشتراكية توزيع الفقر كما أكد السادات, وكما أشار وفي نفس الاتجاه أحد مثقفي عصر الثورة من أنها كانت نظام ظاهره العدالة الأجتماعية وباطنه إفقار الأغنياء وتجويع الفقراء!! ذلك أنها مثلت نمطا خاصا غير نمط الاشتراكية المعروفة كنظرية وتجربة حية امتد بها الزمن لأكثر من نصف قرن ثم تهاوت أركانها منتهية إلي لا شيء, أما الوحدة التي ابتغتها الثورة فقد واجهت مشكلات عدة لم تصمد سياسيات الثورة علي طريق تجاوزها لذا فقد ظلت مبعثرة تعاني الشتات والفرقة تمهيدا للأنهيار الذي كان. والمتأمل في الأحداث التي انطوت عليها تلك الشعارات يري أول ما يري أنه لم تحيطها خيوط استراتيجية تحقق الرابطة العضوية وتكفل لها ديناميكية البقاء والاستمرار بالبراءة والنزاهة في التطبيق والشفافية في الممارسة ليظل لتلك الثورة أياد بيضاء علي الأجيال اللاحقة, أنه مهما طال الأمد علي تاريخ هذه الثورة فالذي لايمكن طيه أو نسيانه أو تجاهله هو تلك البصمة السوداء علي جبين مصر التاريخية حين كان العدوان الثلاثي وهزيمة يونيو, ففي الأولي كان الإيحاء الأمريكي لقائد الثورة بضرورة تأميم القناة وهو ما جر علي مصر تلك الضربة القاسية التي انتظرها الأمريكان وعملوا عليها طويلا اعتمادا علي صوت الكاريزما الملهمة فضلا عن الجهل بأبجديات الاستراتيجية السياسية والعسكرية وإيمانا بمنطق التتابع الاستعماري إذ لم يمض إلا شهرا واحدا علي جلاء قوات الاحتلال البريطاني, وضمن أطرف الطرائف أن أعداء مصر قد أشفقوا عليها من الآثار الوخيمة التي ستحل فور إعلان قرار التأميم!! أما الثانية فقد كانت وظلت مصدرا مشعا لكوارث وعقبات وشروخ في الشخصية والطابع القومي, فأقل الحاصل من جرائرها أنها وضعت إسرائيل علي خريطة العالم كما قال باراك, وسقوط القدس لأول مرة منذ أكثر من تسعمائة عام, وإحتلال سيناء- ولعل تلك النتائج الكبري تعد كاشفة بذاتها عن المقدمات المؤدية إليها مهما تتعدد التبريرات النابعة من ذلك الشغف والهيام السياسي المضلل دائما عن الحقائق المجردة التي تنبني عليها دون سواها أسس النهضة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. أن الحديث عن ثورة يوليو وبعد أكثر من نصف قرن لابد وأن يستدعي في إطار الجدليات السياسية والاستراتيجية والعسكرية الدائرة حولها وحتي هذه اللحظات العديد من التساؤلات الموضوعية علي غرار هل كانت ثورة يوليو بمثابة فانتازيا سياسية؟ وماذا حصد المصريون من جراء هذه الثورة؟ وهل أصبح لهذه الثورة امتدادات حقيقية في حياة وخاطر المصري المعاصر؟ وهل يعد هذا المصري المعاصر مدينا لهذه الثورة؟ وهل شهدت مبادئ الثورة تحولات حادت بها عن مسارها؟ وهل كتبت مشاهد هزيمة يونيو نهايات عصر الثورة المصرية؟ وهل حققت سياسيات الثورة علي إختلافها استراتيجية العدو؟! وهل يعد منطقيا أنه خلال عقد ونصف أن تتلقي الثورة ضربتين عسكريتين قاسمتين؟ من ثم هل تم إجهاض حلم الثورة بأيد داخلية أم خارجية؟ ولماذا لم تصمد أيديولوجية الثورة أمام العواصف والتيارات الخارجية؟ وهل اعتمدت ثورة يوليو علي آلية الفكر المؤسسي لعلم الثورة؟ وكيف حولت الثورة جبهة مثقفيها وحماتها إلي جبهة معارضيها ومنتقديها ؟ وإلي ما بلغ الفكر الثوري من مدي بعد ذلك؟ وماهي مفردات الأيديولوجية الثورية؟ وعلي كل ذلك أو بعضه فإن الرؤية المنصفة والمنظور الحيادي يري أن معني الثورة لم يتحقق إلا في أقصي مدي زمني لايتجاوز غير سنوات قلائل بعدما غابت الرسالة الثورية حين طاشت الأهداف والغايات وسادت عبادة الفرد وتبددت المبادئ وأصبحت الدكتاتورية هي قدس الأقداس!!