الانسان الراقي لأنه شبعان نفسيا هو المحب لغيره من أفراد البشر وهو الذي لابد وأن يشعر بأنه قد تحالف مع زميله في الانسانية علي تنظيم العلاقة الطيبة بينه وبين سائر البشر في كل زمان ومكان وفق الهداية الربانية واعتمادا علي صراط مستقيم. وإذا كان الانسان قد اعتاد علي أن يقبل علي اللذة ويعزف عن الألم فإنه لابد له من أن يجد نفسه مدفوعا إلي المبالغة في تقرير أهمية الخبرات السارة علي حساب الخبرات الأليمة. ويسعي الانسان دائما إلي التوصل إلي كل ما يكون ممكنا له ويحقق له ما يريد ويميل دائما إلي أن يشعر بالرضا, من خلال ما هو ممكن بعيدا عن المستحيل الذي يقف أمامه حجر عثرة, لأن الشعور بالرضا يعد من أهم المطالب الذي يسعي إليها الانسان, لأن هذا الاحساس يجعل صاحبه يستشعر الأمن والأمان, وقد يحتار العقل البشري في زحمة الحياة المادية وما يصاحبها من ضغوط وسرعة ولهفة, وتتبلور هذه الحيرة من خلال الاندفاع الرهيب لاقتناص الفرص والحرص الشديد علي تحقيق المنفعة المادية بأي شكل من الأشكال. ويظهر المستحيل في أمور الانسان من خلال ما يتوهمه البعض في سبيل امتلاك هذا الشعور بالرضا أن الحياة هي الاشباع المادي فقط, وأن السعادة هي( الرفاهية) فانعكس هذا التصور الواهم علي تصرفات البعض فلم يعد هذا البعض يري من القيم سوي جانبها النفعي, وقد يتأكد لديهم الوهم ويتجسد ويتبلور هذا الشعور بالرضا في التركيز علي مدي إشباع الفرد لهذه الحاجات العضوية وهناك من يرفض أن يتشبث بهذا السعي المستمر وراء الماديات ويعتبر هذا الممكن أن يستمر في حياة الانسان لأنه يعتمد علي عقد الصفقات وتكوين شبكة من العلاقات المبنية علي المنفعة المتبادلة بعيدا عن إطار القيم, وهذا الانسان الذي يتشبث بهذا الممكن فقط يخضع للماديات بما فيها من مهاترات( وصراعات) فنجده يضع لنفسه إطارا من القيم يعيش عليه... ويري عكس ذلك يمثل المستحيل الذي لابد وأن يبعد عنه لأنه لا يحقق له ما يريد. والانسان في سعيه المستمر نحو تحقيق كل ما يريد, وجعل كل ما يريد ممكنا, وهذا الحرص علي الاتزان من خلال إشباع الحاجات سواء كانت عضوية أو نفسية قد يخبو ويقل ما يعترض الانسان من عقبات تحد من إشباع رغباته أو تقلل منها... بل وقد تمنعها... وبالاضافة إلي هذه العقبات أو( المستحيلات) نجد أن الانسان في تطلعه لإشباع هذه اللذات يفاجأ باختلاف طبيعة حاجاته سواء كانت نفسية أم عضوية, فالذات التي تشبع ترفض وتقاوم كل ما يقف حجر عثرة بين الاشباع وبين رغبات الفرد, وهناك من يظن وهما أن العقبات تنهزم أمام المحاولات المستمرة, وأن الانسان مهما كانت العقبات والمستحيلات فهو يستدعي الحاجة ويتوسل إليها ويصطنع المواقف التي تغذي إحساسه بالرضا وتجعل كل ما يتعامل معه ممكنا حتي ولو كان صوريا وشكليا ومزيفا!! وبطبيعة الحال فإن الاحساس بالرضا عن طريق الممكن السريع أو إشباع الحاجة بوسائل صناعية مبتسرة يعمل علي ضعف اللذة أو الإحساس بالاشباع الحقيقي, لأن مراحل الاشباع بهذه الطريقة يتحول إلي إيقاعات رتيبة تبعث علي الملل والألم. والاحساس بالملل والألم يصنعه الانسان لأنه يتسرع في تلبية نداء الجسم دون أن يدرك كنه هذا النداء وأبعاده, فيشبع الحاجة بغموض وتخبط أو بسرعة ولهفة, والغموض والتسرع من شأنهما أن يجعلاه متوترا متبرما. وكلما كانت الحاجة التي يريد الانسان الفرد أن يشبعها واضحة النداء كانت وسائل تلبية هذا النداء مستجيبة لدوافع قوية تخدم هذا الاشباع ويعمل علي تحقيقه. أما إذا كانت الحاجة غامضة لا يدرك من أمرها الانسان شيئا سوي( الدغدغات) السريعة أو الايقاعات الخافتة, فإن هذا الانسان يشعر بالتوتر والقلق وعدم الرضا, لأن هذه الحاجة سوف تعاوده بين حين وآخر... فتقرع باب الرغبة لديه بضراوة وقسوة دون أن تكشف الحجب عن سر إصرارها علي عدم الدخول إلي عالم الاشباع. ويزداد التوتر لدي الانسان ويتأرجح بين الممكن والمستحيل أو بين الرضا والتبرم وقد يكتفي هذا الانسان بلذة البحث عن اللذة المنشودة التي لم ير منها سوي وميض خاطف كلمع السراب. وإذا كان الممكن دائما هو هدف من أهداف الانسان فكل فرد يجب أن يكون كل ما يتطلع إليه ممكنا, لأن كل فرد يتمني أن يكون راضيا مرضيا, ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه فلا يلبث أن يكون شعور التبرم والاصطدام بالمستحيل من الأمور التي تجعل الانسان متوترا, وتشعل فيه الوجدان شيبا. ولعل هذا الشعور يتجلي من خلال الاصطدام بالمستحيل علي الوجه التالي. * مواقف العجز التي يمر بها الانسان حيث يجد نفسه لا يقوي علي فعل أي شيء أو لا يستطيع أن يحكم إرادته في تقبل المواقف الضاغطة أو أن مستقبله وما يتعلق به من آمال وتطلعات قد أصبح في يد خفية تعبث به وتسيره كما تشاء وتريد. * يظهر المستحيل من خلال انعدام شعور الانسان بالحرية ذلك الشعور الذي عندما ينعدم يري الانسان نفسه وقد تعلق في الهواء شأنه شأن ريشة ضئيلة في مهب ريح عاتية. * يصطدم بعض الأفراد بالمستحيلات فيشعرون وكأنهم آلة صماء لا تقوي علي التفاعل السليم والأخذ والعطاء المبني علي الأريحية والفهم والوعي بقيمة الانسان الآخر فتحدث الفجوة بينه وبين الآخر ويضيع الوصل من خلال هذا الشعور المتبلد. يجعل المستحيل شبكة العلاقات الاجتماعية غير واضحة, فما يراه الفرد صدقا ومقنعا يتحول في بعض المواقف كذبا ومراهنة وافتراء, فلا يملك الانسان إلا أن يواجه المستحيل من خلال الأقنعة والمسايرة حتي يقترب من الممكن. ويفرض المستحيل بضغوطه علي الجو الاجتماعي المحيط بكل فرد أن يكون متزلفا ومنافقا ويعتمد علي السلوك التبريري الذي ظهر تجنبا للضغوط المادية. يدفع المستحيل بعض ضعاف النفوس إلي الشعور بفقدان قيمة الحياة ويرفض الاقبال عليها فيشعرون بالهموم وبأنهم مكدودين, وغير فعالين في أمور حيواتهم إن الممكن والمستحيل طرفان متضامنان, وقد يبدو للمتأمل العابر أن ظاهرهما ضدان متقابلان, فالانسان الفرد في سعيه نحو ما يريد أن يشبعه أو تستهويه طموحاته إلي العلا كما تستهويه نفسه للخوض في الأعماق, ويفتش دائما عن عوامل تعبه بقدر ما يحاول أن يتلمس جوانب راحته, وكأنه البوتقة العجيبة التي تصارع داخلها قوي خفية غاشمة وتنصهر بين جوانبها عوامل الرغبة فيخرج الخليط يعبر عن الرضا تارة ويعلن عن التبرم والتوتر تارة أخري. والعاقل من يجعل المستحيل ممكنا علي هداية العقل ونمو الفكر الواعي الذي يؤمن بالقيم الأخلاقية ويتطلع إلي الأمل الرشيد.