قضي ديكتاتور شيلي السابق، أوغستو رامون بينوشيه، الذي حلت ذكراه قبل شهور، ما يزيد علي عشر سنوات في نهايات عمره المديد، ملاحقاً من قبل منظمات حقوقية دولية ومحلية، بتهم تتعلق بالفساد وانتهاك حقوق الانسان قبل أن يختطفه الموت في العاشر من ديسمبر عام 2006، عن عمر يناهز تسعين عاماً، قضي منه نحو ثلاثين عاماً علي قمة السلطة في بلاده، رئيساً لا يجرؤ أحد علي الاقتراب منه أو انتقاده، وقائداً أعلي للجيش لا تدانيه رتبة عسكرية، وعضواً في مجلس الشيوخ متمتعاً بما تفرضه القوانين التي يشارك في وضعها من حصانة، تجعل من يحصل عليها فوق الحساب أو المساءلة من قبل الشعب، وهو ما لم يمكن قوي المعارضة في شيلي برغم ما بذلته من جهود من محاكمته، أو مشاهدته خلف أسوار السجون، ولو ليوم واحد علي سبيل التذكار. استولي بينوشيه علي حكم شيلي بعد انقلاب عسكري، نفذه بدعم أمريكي مباشر في سبتمبر من عام 1973، عندما اقتحم القصر الرئاسي وقتل الرئيس الشرعي للبلاد سلفادور الليندي، بعدما رفض الأخير الهرب، وواجه قاتله بما يليق بزعيم شعبي، وقد عبرت عن ذلك المشهد البديع الروائية العالمية ايزابيل الليندي، وهي ابنة شقيق الرئيس الشيلي المغدور، في ثلاثيتها الشهيرة، بيت الأرواح وصور عتيقة وابنة الحظ، عندما كتبت في إحداها عن "الزعيم الذي تزين للموت واستقبله بصدر عار، إلا من الوشاح الرئاسي الذي ميز رؤساء شيلي علي مدي قرنين من الزمان"، وقد كانت ليندي تقصد في ذلك عمها الذي تحول إلي أيقونة مضيئة من أيقونات حركات التحرر في دول أمريكا اللاتينية. علي مدار سنوات حكمه، التي تجاوزت ربع قرن من الزمان، قضي بينوشيه علي كل ما أنجزه سلفه اشتراكي التوجه، ففتح المعتقلات للمعارضين وسحل مناوئيه في الطرقات، وباع أراضي الدولة ومصانعها للأجانب، قبل أن ينتفض الشعب عليه في بداية الثمانينيات، ويرفض الاستفتاء علي الدستور الذي صاغه علي نحو يمكنه من الحكم مدي الحياة، مما دفعه في النهاية إلي التسليم بمصيره، والاعتراف بالهزيمة في أول انتخابات تعددية تشهدها بلاده في عام 1989، وإن ظل محتفظا بموقعه كقائد للجيش، وعضو في مجلس الشيوخ، وهما المنصبان اللذان منحاه حصانة مطلقة حتي رحيله، كانت سبباً في حمايته من المحاكمة علي ما اقترفه في حق شعبه وهو كثير، لا تكفي لذكره عشرات الروايات والقصص الملحمية. احتل الديكتاتور الشيلي الراحل، لقب أسوأ حاكم شهدته أمريكا اللاتينية خلال القرن المنصرم، ولعله يكون الأسوأ في التاريخ الحديث كله، إذ بلغت ممارساته علي مدار سنوات حكمه التي تجاوزت 17 عاما، ما يفوق ديكتاتوريات تشاوشيسكو في رومانيا، وسالازار في البرتغال، وملك ملوك إفريقيا ورئيس الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمي، العقيد معمر القذافي. الذين يعيشقون أدب أمريكا اللاتينية، وسحرتهم رائعة ماركيز الشهيرة "خريف البطريرك"، والجنرال لا يجد من يكاتبه، والواقعية السحرية التي تتفجر من "صور" ايزابيل الليندي العتيقة، يمكنهم ببساطة معرفة ما يعنيه القهر، لذا فإنهم ربما يكونون أكثر هلعاً من غيرهم، عندما يتعلق الأمر بمحاولات السلطة، أي سلطة، الانفراد بالحكم أو العبث بالدستور، خاصة وأن دروس التاريخ تخبرنا أن البدايات دائما ما تكون واحدة، وأن الديكتاتوريات لا تأتي من فراغ، لكنها تتسلل دائما إلي كراسي الحكم، مع أول قطرة دم تراق دون حساب، ربما لأن القتل والسجن يصبح بعدها أمراً عادياً، قد لا يجد الديكتاتور مع اعتياده، مجرد وقت لإحصاء عدد الضحايا. لم تنكس شيلي أعلامها عند رحيل بينوشيه، فرقص أحفاد الملايين الذين سلبهم أبسط حقوقهم في حياة حرة وكريمة، في الميادين حتي صباح اليوم التالي، لكن ذلك لم يمنع إعلان قلة من الذين استفادوا من سنوات النهب في عصره، حداداً يليق بالرجل الذي لم يمنحهم حتي عناء حساب زيادة أرصدتهم اليومية في البنوك، علي حساب الغالبية العظمي من شعبه. إنهم أرامل الديكتاتور في كل زمان، وإن اختلفت المسميات والأماكن.