يحاول الانسان دائما أن يبحث عن الحقيقة, وهو في بحثه هذا ينبغي أن يعرف أن الطريق إلي الحقيقة يحتاج إلي الموضوعية, فهناك خطر داهم يتمثل في الذاتية المسرفة التي يصاب بها بعض الأفراد فتطمس فيهم بعض جوانب الحقيقة, إلي جانب أن الانسان الفرد في بعض اللحظات يخضع للشكليات التي تفرضها عليه بعض الأطر الاجتماعية فتضيع منه القيمة في زحمة الانشغال بهذه الأطر السطحية, فتضعف الإرادة الواعية اعتمادا علي هذا السهو المعتم, فيصاب هذا الانسان بدوار عجيب.... فنراه يترنح بين الحقيقة تارة ووهم تصوراته الذاتية تارة أخري فلا يملك إلا أن يكون ذبيحة سائغة تلوكها جلسات تلك الأطر الاجتماعية الزائفة... وهكذا يكون الهروب من الذات لأنه يا ليت هذا الانسان يستيقظ من هذا الحلم الواهم لأن هذا الحلم بمثابة الخوف المرضي الذي يضيع عليه شجاعته, وهو القلق الذي يفقده صفاؤه الروحي وهو الضعف الذي يحرمه من القوة التي كانت تنتشر في أرجاء عقله وجسده ووجدانه عندما كان صادقا ومحبا ومخلصا!! وإذا كان هذا الحلم الواهم المعبر عن الهروب من الذات قد نسجته بعض التراكمات التي قد يفرضها الآخرون فلا ينبغي أن تشغل الانسان عن الوعي بمطالب الآخرين فدائما مطالبهم تختلف عن مطالبه إذا كان واعيا بمقدراته ومصححا لمساراته. فهؤلاء يأخذون ويطلبون, ولا يملك الانسان الواعي الحساس إلا الانصياع والمسايرة, وكأنه أراد لنفسه أن يعيش بين مساحات الغباء المستمر ملبيا لمطالبهم فيسحق بذلك نفسه, ويقضي علي جذوة نضاله وتعبه وتفوقه وتميزه. والاحتفاظ ببصيص من الأمل بعد التجربة القاسية هو رفض مؤقت للألم ومصدر عطاء لأمل جديد, وانسحاب مؤقت من معركة كثيرا ما يكون الانسان الراقي لا يمثل طرفا فيها ولكنها فرضت عليه فكانت الخسارة مزدوجة حيث يتضح هذا الازدواج في كونها: * خسارة تتمثل في الانسحاب والتقهقر. * وخسارة فادحة أخري لأنه لم يقو علي مواجهة المعركة المباغتة. إن هذا الانسحاب في بعض اللحظات من المواقف أو المعارك التي يصنعها الآخرون بحقد وحسد, أو تلك التي تفرض عليه فرضا تبعا لتناقض الظروف أو عدم ملاءمة العلاقات.. لا يعني هذا الانسحاب الخوف... لأن الخوف من القوة هو جوهر الانسحاب. إن الانسان الراقي مشكلته الحقيقية في بعض اللحظات من عمره أنه يجهز للآخر كل ما يريد, وينسي أن يجهز لنفسه ما يريد, وهو من خلال هذا الهروب من ذاته يعبر عن التناقض الذي يتمثل في الجمع بين الضعف والقوة فإذا كان هذا الجمع جائزا فإنه لا يجوز أن يجمع الانسان بين القسوة وعدم الثقة فتلك معادلة صعبة ومستحيلة لأن من لا يثق بالآخرين ثم بنفسه لا يستطيع أن يقسو, ولكن هناك مساحة صغيرة جدا يتحرك فيها هذا الانسان الراقي مع الآخر لعله يستطيع أن يتفاهم معه فيعطيه ما يريد ويتوقع منه أن يلبي طلبه فيما يريد هو, وكأنه وفاق يعيد الثقة ويمنع استمرار القسوة. ويتجلي الهروب من الذات عندما يحتاج الانسان إلي الآخر, فلابد وأن يستعد لعدم تلبية حاجته لأننا نجد سلوك الأريحية ينزوي عند البعض, أولئك الذين لا يفكرون إلا في مصلحتهم, أو يتبادلون المنفعة والمصالح المشتركة وكأنها صفقات مؤقتة ينتهي أمرها إذا ما انتهت هذه المصالح حيث كل واحد من هؤلاء يبحث عن المسالك والدروب الأخري التي تحقق له مصلحة جديدة!! إن الاستعداد الواقي من قبل الانسان الراقي يجعله يستشعر القوة والحضور مع ذاته بدلا من الندم علي العطاء, فهذا الانسان الذي أعطي الآخر كل ما يريد يكفيه الاحتفاظ بحق الرغبة والتمني لأن الحلم في هذه اللحظة أعز من الحقيقة بكثير وحتي لو كانت هناك أمنية لهذا الانسان الراقي أمنية واحدة فعليه أن يعقد عليها الأمل, ثم يضع نفسه في غفوة طويلة فسوف يجد رغبة واحدة وأماني كثيرة قد لا يستطيع تحقيقها... وعلي الانسان الراقي الذي لا يهرب من ذاته أن يتجنب الشعور بالحسرة والألم لأنه لم يستطع أن يحقق كل ما يريده فشقاء الانسان الراقي أن تكون رغباته عديدة وأمنيته واحدة يجترها بقلبه المكدود. إن الانسان الراقي الذي لا يريد الهروب من ذاته عليه أن يكون سعيدا فإذا أراد لنفسه ذلك فلابد وأن يبتعد عن ذلك الذي يلهو بأعصابه فلا خير فيه, وعليه أيضا ألا يحاول إقناع الآخر الذي يلهو بأعصابه بل عليه أن يوظف ويفعل معتمدا علي وعيه وصفاء قلبه وقيمه الخلقية, ثم يدع الاقتناع لمن يبحث عنه فإن وجد الاقتناع كفاه, وإن لم يجده أعياه.... وسوف يستمر هذا الآخر الأناني الذي يلهو بأعصاب الآخرين يبحث عن الاقتناع بعد فوات الآوان, حيث لا ينفع الندم أو السماح أو الرضا!! والانسان الراقي قد يبكيه هذا الجفاء وضياع العشرة ولكنه سوف يجد حتما من يراه بوعي أفضل ويتوسم في ملامحه الحزينة تلك الدموع التي راحت ولن تأتي. والسعادة الحقيقية تتمثل في إرادة الانسان المتمسكة بالقيم الرشيدة وتتضح من خلال وعيه وعلمه وعطائه المستمر, وتتشكل من خلال نضجه وتقديره للأمور وسوف يري غرسه الطيب في كل مواسم الحصاد الواعية فيلمسه في عيون صادقة وأمينة ووفية تعرف معني العطاء وتقدر معني السخاء. وعلي الانسان الراقي الذي يرفض الهروب من ذاته أن يكون واعيا وناضجا, ويتصور العطاء دائما بداية لحياته حتي بعد أن يواجه الآلام وسوء التقدير وضياع العشرة. والبداية مع العطاء تكون دائما مشرقة حيث لا يعرف العطاء إلا الأمل والوفاء, والصدق, والوضوح والتفاعل الأمين والمحبة الخالصة. رابط دائم :