تبدو التجربة الإندونيسية قريبة الشبه إلي حد كبير, مع ما جري ويجري في مصر, وهو تشابه يصل حد التطابق حتي في التفاصيل الصغيرة, بدءا من المدة الذي قضاها سوهارتو في الحكم إندونيسيا بعد سوهارتو, هو عنوان ذلك الكتيب الممتع, الذي وقع تحت يدي قبل أيام, وهو الإصدار الثاني من سلسلة مخاضات التغيير.. تجارب في الثورة, التي تصدرها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان, وقد صدرت طبعته الأولي في أغسطس الماضي, بتقديم بديع للزميل وائل جمال, مدير التحرير السابق لصحيفة الشروق, أضاء مساحات لا تخلو من ضوء شفيف, صنعها تامر موافي بتحليل عميق, لأحداث ووقائع تبعث علي الدهشة, من فرط تشابهها مع ما شهدته مصر, علي مدار العامين الماضيين. وقع الكتيب تحت يدي بالمصادفة, بينما كنت أبحث علي شبكة الإنترنت عن تواريخ لبعض الوقائع المتعلقة بالرئيس الإندونيسي الراحل عبد الرحمن وحيد, وكان مشهد الرجل, قد قفز أمامي فجأة, وهو يغفو أمام الكاميرات في غير مناسبة, من فرط المرض وثقل المهمة التي دفع إلي تحملها دفعا في نهاية التسعينيات, وبعد ثورة شعبية عارمة أصبح بعدها أول رئيس منتخب في إندونيسيا, بعد نهاية حكم سوهارتو الذي استمر لثلاثة عقود من الزمان. علي مدار نحو ساعة لم أفلت الكتيب من يدي, وقد هالني ذلك التشابه الرهيب بين ما جري في إندونيسيا, منذ اندلاع ثورتها ضد حكم الديكتاتور سوهارتو في العام1998, وما جري في مصر ويجري فيها الآن, وهو تشابه يكاد يصل في بعض الآحيان إلي حد التطابق, الذي عبر عنه وائل جمال في مقدمة بليغة بالقول كأنها مصر, وكأنه مبارك, وكأنها ثورتنا, وكأنها طغمتنا الطبقية, وثورتها المضادة, وأنا أزيد علي ذلك: بل وكأنها أيضا جماعة الإخوان, وقوي التيار السلفي, وحركة كتالا النوبية في أقصي الصعيد, والسلفية الجهادية في شمال سيناء علي الحدود الشرقية للبلاد. يقدم الكتيب رسالة شديدة القوة والدلالة في آن, وهو يعرض في رشاقة لا تفتقد العمق, لنحو خمسة عشر عاما من عمر ذلك النمر الآسيوي, الذي يصل تعداد سكانه إلي نحو30 مليون نسمة, وكيف وصل الإسلاميون إلي الحكم في ظرف تاريخي بالغ الدقة, ليجد هذا البلد الذي يحتضن أكثر من ألف إثنية رئيسية وفرعية, نفسه في مواجهة مع المصير, إما الاتجاه نحو تأسيس دولة ديموقراطية حرة, تعلي من قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية, وترسخ للوحدة الوطنية وتحافظ علي الأيديولوجية القومية لأبنائها, وإما الاستسلام لمخطط خارجي شرير يستهدف تحويل أرخبيل الجزر الساحرة, التي يتخطي عددها17 ألف جزيرة, تمتد بطول خمسة آلاف كيلو متر في جنوب شرق آسيا, إلي مستنقع للفوضي والإرهاب الدولي. تبدو التجربة الإندونيسية قريبة الشبه إلي حد كبير, مع ما جري ويجري في مصر, وهو تشابه يصل حد التطابق حتي في التفاصيل الصغيرة, بدءا من المدة الذي قضاها سوهارتو في الحكم, والتي تكاد تتطابق مع فترة حكم مبارك, مرورا بالأوضاع الاقتصادية والسياسية التي مهدت للثورة, احتجاجا علي حكم العائلة, ونهب ثروات البلاد من قبل حفنة من المقربين ورجال الأعمال, وليس انتهاء بآليات البطش التي استخدمها الديكتاتور لقمع انتفاضة الشعب, بما فيها القناصة واختراق أجهزة الأمن الأحزاب السياسية, بل وأعداد الشهداء, وميليشيات البلطجية التي لا نزال نعاني منها حتي اليوم! يعرض الكتاب في لغة بسيطة وسلسة كيف دفعت الظروف ب وحيد رجل الدين الضرير, إلي فوز عبثي في أول انتخابات رئاسية بعد سقوط سوهارتو, وكيف تحالفت الحركتان الإسلاميتان الرئيسيتان, رغم ما بينهما من خلاف فقهي عميق, علي إسقاط ميجاواتي, ابنة سوكارنو الرئيس المؤسس لإندونيسيا, انطلاقا من قاعدة فقهية متشددة لا تعترف ب ولاية المرأة, وكيف فشل وحيد خلال فترة حكمه القليلة, في توحيد البلاد في سنوات الاضطراب التي أعقبت الثورة, وفي مواجهة أزمة اقتصادية قصمت ظهر إندونيسيا, دفعت البرلمان إلي إسقاطه قبل أن يكمل عامين في السلطة, بعد اتهامه بالفساد وعدم الكفاءة, والتسبب في انفجار العديد من الصراعات العرقية والدينية, التي راح ضحيتها المئات في العديد من الأقاليم. يقدم كتاب إندونيسيا بعد سوهارتو رسالة شديدة الدلالة وواضحة المعني, مفادها أن معارك الثورات لا تتوقف عند إسقاط نظم القمع, وإن الديمقراطية الحقيقية لا تقف عند حد صندوق الانتخابات, أو صياغة دستور جديد, لكنها تمتد إلي ما هو أعمق بكثير, ألا وهو إحداث تغيير حقيقي في بنية المجتمع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية, وفتح الباب واسعا أمام تنظيم الناس أنفسهم, باعتبار ذلك هو الخطوة الحقيقية الأولي علي طريق الانتصار.