كثيرا ما نختلف في تعاملنا مع الآخرين سواء كان هذا الخلاف في اللفظ أو في الفعل أو في صنع القرار, وهذا الخلاف قد يرجع إلي مجموعة من العوامل التي تشكلها ظروف تربية كل فرد, ودرجة تعليمه وثقافته وإطاره القيمي الخلقي علي وجه العموم. واعتمادا علي ما يظهر من اختلافات فإننا نري أن هذه الاختلافات قد تعتمد علي اصطدام مصالح الأفراد بعضهم ببعض, أو أن كل فرد في كل لحظة يري دائما في نفسه أنه صاحب حق, وأن الغلبة لابد وأن تكون له!! هذا الشعور الطاغي والسعي الحثيث للحصول علي الانتصار والانجاز قد نجده يدفع صاحبه إلي أن يتصرف دائما, وبنفس سعيه السابق للانتصار والانجاز إلي أن ينتقم من الشخص( أو الأفراد) الذين يحاولون أن يأخذوا منه بغير حق, أو يعتدوا عليه أو يضغطوا دون رحمة أو هوادة. هذا الانسان المظلوم والمضغوط يحاول أن ينفس عن نفسه فيفكر في أخذ حقه فيوسوس له الشيطان بالانتقام من الذي ضغط عليه ويحاول بقدر المستطاع أن يقلل من راحته وينغص عليه عيشته ووقته وسعادته. إن الشيطان هنا يقرع علي باب قلب ذلك الانسان, ويطلب منه الاذن بالدخول ليعلمه كيف ينتقم, وكيف يرد الصاع صاعين ولكن علينا أن نتذكر دائما أن الشيطان يكتفي بأن يطلب من ذلك الانسان الإذن بالدخول... فإذا تركه يقرع ويستمر دون أن يعطيه بالا فإن هذا الانسان قد وضع نفسه في صورة راقية تليق به كإنسان يرفض أن يكون في هذه الصورة المشوهة... صورة الانسان المنتقم. هذا الانسان الراقي من خلال رفضه للانتقام قرر أن يكون متسامحا ودودا قانعا بأن الشر يواجه بالخير والسلوك القويم هذا الانسان يرفض أن يترك الباب حتي مواربا في مواجهة شيطان الانتقام وهو يعلم أن من يفتح الباب قد حكم علي نفسه بالهلاك. إن راحة البال الحقيقية ترفض سلوك الانتقام لأنه يعبر عن شخصية مضطربة نفسيا, لأن الشيطان الذي نتذرع به دائما عندما تتحول سلوكياتنا إلي سلوكيات لا تعبر عن الانسان الراقي.. هذا الشيطان لا وجود له إذا كان الانسان لم يتجاوب مع هواجسه أو كانت إرادته أمام الغواية ضعيفة, فإرادة الانسان الواعية لابد وأن تقف في مواجهة الغواية, لأن الغواية اخترعتها إرادته الشريرة التي تحالفت مع هذا الشيطان. الشيطان هو السهولة واليسر والاستسلام وفتح باب الشر علي مصراعيه, وحتي نحاول أن نبرر سقوطنا بالحديث عن قوة الشيطان وإغرائه, فإن تلك الشخصية الغريبة( شخصية الشيطان) التي نسقط عليها خبثنا وسوء نيتنا لا تقوي علي عمل شيء ما لم نرد نحن ذلك, بل ما لم تصح عزيمتنا نحن علي السقوط.. فالشيطان لا يستطيع شيئا دون موافقتي, أو هو لابد وأن يتحايل علينا ويستهوينا حتي ننخدع له وننصاع لسمومه ونساير ما يمليه علينا من تصرفات فالشيطان دائما يتسول طالبا من ضعفنا الاذن له بالدخول. إن الانسان الراقي الذي يريد لنفسه أن يستشعر راحة البال عليه دائما أو يوظف إرادته ضد الشيطان الذي يدفعه الي الانتقام, وأن الذي يسلم نفسه وإرادته للانتقام فتح قلبه للشيطان, وترك نفسه نهبا لقلة راحة البال, واعترف بأنه تحول من مرحلة الانسان الراقي إلي مرحلة الانسان الذي يطمس أعز ما فيه وهي إرادة الخير المبنية علي التسامح والرقة والعذوبة وصفاء النفس والالتزام بالقيم الخلقية الدينية. والواقع أن الانتقام إذا كان في مجمله بمثابة رد فعل لمثير ضاغط شأنه شأن من يقتحم احدي خلايا النحل, فإذا به يواجه الشغالات من النحل التي تأخذ في مهاجمته بغير هوادة مهددة بأن تغرس في جلده السهام والسموم التي تسلحت بها لهذا الغرض, والواقع أن هذا السلوك الغريزي لا تفكير فيه ويحدث بطريقة طبيعية كفعل له مردوده وكمثير لابد وأن يستحضر بالضرورة استجابة معينة بلا تخطيط أو تفكير والانسان الذي كرمه الله بالعقل والفكر وقوة الارادة, وفوق كل ذلك بالفطرة الطيبة, سلوكه أرقي من سلوك النحل, ولا ينبغي أن يكون في لحظة من اللحظات في فورة غضبه وثورة انفعالاته مثل هذا السلوك من طباعه أو يعبر عن تصرفاته. ونلاحظ أن هناك مواقف كثيرة قد نجدها أشبه ما تكون بسلوك النحلة عند بعض الأفراد, فنراهم يعتدون ويهاجمون, والغريب أننا قد نجد أكثر الناس دماثة وخلقا ورقة وعذوبة ينقض علي الآخر أثناء حديثه معه فيهاجمه لأنه قد اختلف معه, أو لأنه يريد أن يؤكد ذاته, فيلسعه بألفاظه كما تلسع النحلة لسعتها الشهيرة انتقاما وعدوانا!! والواقع أن راحة البال تتطلب الهدوء, وتتطلب السماح والعفو والرحمة لأن الانسان إذا شعر بالألم من الآخر, وقابل هذا الشعور بصفاء نفسي وتسامح جميل, فإن هذا الشعور الراقي يحول الألم الي هدوء وسعادة تأتيه من هذا الصفح الجميل, وهنا يكون هذا الانسان الراقي قد جعل من إيذاء الآخر أداة فعالة يتطور من خلالها ويصفو من بين ثناياها, وهو بهذا التصرف الخلقي لا يبدو ضعيفا, بل قويا ومتماسكا. وتعتبر القدرة علي التحمل وخاصة تحمل الآلام التي قد تأتي من الآخرين واستيعاب هذه الآلام بصدر رحب ومودة باقية علي العشرة مرحبة بصدر حان لامتصاص هذه الانفعالات, وتعطي صاحبها القدرة علي الاستمرار السليم, ويصبح الألم أمارة طيبة ومؤشرا راقيا يدفع صاحبه الي التحمل والسماح, والعفو عند المقدرة بعيدا عن عوامل الانتقام.... لأن المودة نقاهة للنفس, وهي التي تعمل علي تنقيتها من أدران الحقد والكره وتعلمها كيف يحرص الانسان علي رقيه وقيمته, وكيف يغسل ما في داخله من عوامل الشر والكره. فالخطيئة ليست في أن الفرد يريد السوء بالآخر, بل الخطيئة الحقيقية تكمن في الارادة السيئة التي تدفع صاحبها إلي ارتكاب هذا السوء.