موضوع واحد في مصر يشهد حالة نادرة من الإجماع علي الرأي في الساحتين السياسية والثقافية, وهو إجماع في الحزن والتشاؤم مما آلت إليه أوضاع التعليم, المدرسي والجامعي علي حد سواء. تحدث الكثيرون من المثقفين والعلماء والسياسيين عن أهمية تدارك الكارثة, وتطوع البعض من المخلصين لتقديم النصائح ومد يد العون, ويبدو أن البعض الآخر في مواقع المسئولية في التعليم والبحث العلمي قد بدأ في التصدي للقضية ومعالجتها بما يراه من الحلول وليس أقلها هذا النشاط المكثف لوزير التعليم بزياراته الفجائية بهدف ضبط العملية التعليمية, ومحاولات تطوير نظام البحث العلمي في الجامعة أملا في إعادتها للقوائم الدولية. وعلي مستوي التشخيص أرجع البعض العلة إلي تراجع استقلالية المؤسسات التعليمية, وعلي رأسها الجامعة, وفشل المجتمع والدولة في تأمين مستوي المعيشة اللائق لمدرسي وزارة التعليم, وأساتذة الجامعة علي حد سواء. ولا اعتراض عندي علي أن هذه الأسباب وغيرها قد أسهم في تدهور العملية التعليمية والبحث العلمي علي حد سواء, غير أنني أظن أن انهيار التعليم في مصر ينطوي علي مشكلة أعمق وأصعب من المشكلات الإدارية لوزارة التعليم والجامعات المصرية, فحين نتحدث عن المدرسة والجامعة فإننا نتحدث عن العلم الحديث, وبالتالي نتحدث عن نوع محدد من المعرفة العقلانية, فللعلم الحديث فلسفته ومنهجه, وبدون الاقتناع بهما وبدون التماس وجودهما معا في تصورنا الفكري لا يمكن لأي مجتمع علمي أن ينمو ويزدهر, فهل نحن من المؤمنين بالعلم وفلسفته؟ ولتوضيح ما سبق أعود بالقارئ الكريم إلي منتصف القرن الثامن عشر عندما كانت مصر ولاية عثمانية, ويحدثنا الشيخ عبدالرحمن الجبرتي في تاريخه عجائب الآثار: جاءها وال جديد من محبي العلوم الرياضية, وأن الباشا حاول أن يناقش بعض شيوخ الأزهر في العلوم الرياضية, فأحجموا وقالوا لا نعرف شيئا عن هذه العلوم, غير أن الباشا قال لهم: المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم, وكنت في غاية الشوق إلي المجيء اليها فلما جئتها وجدتها كما قيل تسمع بالمعيدي خير من ان تراه فتصدي له الشيخ الجليل عبد الله الشبراوي قائلا: هي يامولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف. فقال: وأين هي وأنتم من أعظم علمائها, وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم منها شيئا, وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل, ونبذتم المقاصد, فقال له الشيخ الشبراوي: نحن لسنا أعظم علمائها, وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام, وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلي علم الفرائض والمواريث, كعلم الحساب والغبار, وهذه العلوم( الرياضية والفلكية) تحتاج إلي لوازم وشروط والات وصناعات وأمور ذوقية, كرقة الطبيعة حسن الوضع والخط والرسم والتشكيل والأمور العطاردية وأهل الأزهر, بخلاف ذلك غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القري والآفاق فيندر فيهم القابلية لذلك, فقال: وأين البعض؟ فقال موجودون في بيوتهم يسعي إليهم. ثم أخبره عن الشيخ الوالد( الشيخ حسن الجبرتي) وعرفه عنه وأطنب في ذكره فقال: ألتمس منكم إرساله عندي, فقال: يامولانا إنه عظيم القدر, وليس تحت أمري, فقال: وكيف الطريق إلي حضوره, قال: تكتبون له إرسالية مع بعض خواصكم فلا يسعه الامتناع, ففعل ذلك وطلع إليه ولبي دعوته وسر برؤياه واغتبط به كثيرا, وكان يتردد إليه يومين في الجمعة هما السبت والأربعاء, وأدرك منه مأموله وواصله بالبر, والإكرام الزائد الكثير, ولازم المطالعة عليه مدة ولايته. ويضيف الجبرتي عن والده أن طلابا من الإفرنج حضروا إليه, وقرأوا عليه علم الهندسة, وذهبوا إلي بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت, وأخرجوه من القوة إلي الفعل, واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء, وجر الأثقال, واستنباط المياه وغير ذلك. والجبرتي وشيوخ الأزهر في ذلك الوقت كانوا خير تعبير عن ثقافة عصرهم, فمن ردهم علي الباشا إنكار لكوننا لا نعرف وأن علينا أن نبدأ التعلم, ومنهم نعرف أن العلوم الشرعية هي الأهم لحياة الناس اليومية, وعلوم الأولين مثل العلوم الرياضية التي يسعي إليها عند البعض, وهي مهمة بقدر ما هي مفيدة في الصناعات المختلفة. وأخيرا من الشيخ الجبرتي نعرف أن والده كان أكبر علماء عصره, بل إنه يعلم طلاب الإفرنج ما جعلهم يطورون العلم في بلادهم. والجبرتي وشيوخ الأزهر من القرن الثامن عشر خير معبرين عنا حتي الآن, فموقفنا من أهمية المعرفة العلمية وموقعها في حياتنا لم يتغير, فمازلنا نصر علي الابتعاد عن المشكلة الرئيسية وهي اختفاء العلم والمعرفة من حياتنا, وننهمك في تقديم أكبر كم ممكن من التبريرات لتفسير كسلنا عن التعلم, ورفضنا للمعرفة, وأخيرا لم نتغير في تفخيم أحد أبنائنا أو شيوخنا المتعلمين ليعرف عوضنا عنا.. وللحديث بقية...