قادمة من بعيد لتزور قريتنا..نسرع إليها,فتفتح ذراعيها وتضمنا كلنا في أحضانها وتقبلنا,وتخصني بأكبر قبلاتها فأسعد وأطرب بها. وسرعان ما تغمرنا بالهدايا والحلوي, فنطفق نطير من فرط السعادة بها وبهداياها الثمينة لقد احتلت في قلوبنا خير منزل..صرنا نحبها جميعا, وصرت أخصها بحبي الطفولي العميم, كنت أري فيها أمي الراحلة, وأشعر في عينيها بدفء العالم كله يشرق فيضيء ويغمر الآخرين بالحياة,وكنا ننتظر مقدمها بين رحيلها عنا وعودتها إلينا من جديد, بفارغ الصبر وكنا متلهفين إلي رؤياها,وكنا ندعو الله دوما أن يدعها زوجها تسافر وتأتي إلينا, فقد كنا نسمع عنه أنه رجل غضوب قاس عنيد, وفي زورته الوحيدة لنا رأيناه بعد أن رسمنا له صورة مخيفة بشعة في مخيلتنا قبل أن تفارقنا ونفارقها: لقد كانت عيناه تلك الواسعتين لعوالم مجهولة نخشي أن نخترقها فلا نعود من أفقها وسرعان ما نلهو عن رؤيته ووجهه ذلك العبوس الكئيب اليها, الي وجهها وابتسامتها المشرقة الساطعة التي تغمرنا وتحتضنا بها جميعا..شتان بينه وبينها! لقد كنا نسمع الأخبار الكثيرة عنها تتوارد إلينا دافقة من أفواه أمهاتنا, فهن أكثر من يعلمن بأمرها: فعلمنا أنها لم ترزق بولد, فكان زوجها يضيق بها فيرحل عنها..ويقولون أنه تزوج بغيرها لتأتي له بالولد أو حتي ببنت ولكنها لم تهتم بالأمر وسرعان ماتناسته وفارقته رغم جمع الحياة لهما, فصارت تخص حياتها بقريتنا وبزيارتها العديدة لنا, وتخصنا بعطفها لتعوض حرمانها من الأولاد بنا, وحزنت جدا عندما علمت أن سبب عدم الإنجاب كان منها. ورغم حداثة سني كنت أعرف القليل عن تلك الأمور, فحزنت واندهشت قليلا مما يحدث وتساءلت: كيف لتلك العظيمة القلب الباهرة الجمال ألا ترزق بطفل تحبه وتحنو عليه كحنانها علينا؟! ولكنني سرعان ماكنت أنفض ذلك التفكير الخاطيء عن ذهني, فأعلم كما سمعت أنها إرادة الله ومشيئته ولا مرد لقضائه وحكمه, فكما يهب لنا النعم فقد يسلبنا بعض النعم الأخري فتتزن حياتنا وتتساوي كفات نعمنا: ما أخذ وما أعطي لنا مع غيرنا..إنها حكمة الحياة وحكمة الخالق في خلقه. وانصرفت عن التفكير في أمر( أمنا) التي صرنا نلقبها بذلك اللقب, وقد منحناها إياه بعد مالقيناه من حياة في أحضانها وانقطعت عنا بغتة سنوات وسنوات, وتساءلنا عن سر ذلك الانقطاع وتعددت الإجابات عليه: فمن قال أن زوجها ذلك الوحش أمرها بعدم زيارة تلك القرية بعد ذلك, ومن قال أنها سافرت الي الخارج, ومن قال أنها أحدثت خلافا مع أحد القاطنين في قريتنا وعلي إثره اختفت عنها. وهكذا لم نظفر بإجابة موحدة تشفي لهيبنا واشتياقنا لرؤيتها. وتوالت الأيام, وانصرف كل منا في طريقه وعندما اشتد عودي قررت أن أريح والدي من عمله وكدحه فيه بعد أن صار المرض يرهق كاهله ويشق عليه أن يرانا ونحن نطالب بأشياء لايقدر أن يلبيها لنا, فسرعان مايعمل أكثر ويرهق أكثر حتي يحصل علي ما نستطيع به سد رمقنا وإشباع أهوائنا وأن أعمل بدلا منه طالما توافرت الصحة واكتملت القوة وسرعان ما انتقلت للعمل في المدينة بجوارنا ذات الدخل الوفير والخير العميم. وكانت عندما تأتي لزيارة قريتنا, تقول مبهورة بها أنها لم تر مثيلا لها في جمالها وروعتها وبهائها, وكنا نصفق جذلا وطربا لها ولمقدمها عندما أراها أنا وأصدقائي الصغار لقد كان جمالها لايباريه مثيل أو شبيها حتي كنت أتحدي بها كل من يقولون عن أخراها يوما أنها جميلة أو وجهها حلو فتان, فمهما كان جميلا فلن يكون في مثل جمالها: بمشيتها الدءوب وصوتها العذب الخفق, ينسال علي الآذان, فيهدهد النفوس ويطرب القلوب. كانت في جمالها آية رغم سنوات العمر الكثيرة, إلا أن ذلك الشعر الرقيق المتدفق في حنان علي كتفيها الرقيقتين والذي يغطيه ذلك( الإيشارب) الأنيق منعا من أن تخترقه أعين الغازين, وتلك العينان النجلاوان الساحرتان المحاطتان بخطوط من قلم أسود..الرائعتان والخالبتان, والشفاه الرقيقة وذلك الوجه المتورد..كانت حقا فوق حدود الوصف والخيال, هكذا رأيتها, وهكذا أحببتها ربما لاتصدقون ولكم ذلك, فكيف للصغير ذي السنوات المعدودة علي أصابع اليد مثلي أن يحبها وهي في عمر والدتي؟! ولكنها كانت الحقيقة لقد أحببتها رغم سنوات عمري القليلة, ورحت بها بعد أن وافي أبي المريض الموت ورحل عن الحياة فصرت يتيما بعده: معي أشقائي الصغار مسئولية في رقبتي علي أن أرعاهم كما أوصاني بهم الراحل في مرضه الغادر محتاجا حقا إلي ابتسامتها وحنانها أكثر من ذي قبل لتعوضني بهما عن والدي وفقداني لهما. وتناسي الصغار الذين صاروا في مرحلة الشباب كبار أمرها, وألهتهم الحياة في أعبائها, فكانت كفيلة بنسيانهم إياها* ولكنني لم أستطع أن أنساها فقد كانت في قلبي رفيقة أما وحبيبة: كانت في السويداء منه! وكثيرا ما ذكرتني تلك المرأة الجالسة علي ذلك الطوار عند مقدمي للقرية : في ملامح وجهها. ولكن شتان بينهما في غير ذلك, فقد كان شعر تلك العجوز أشعثا أغبرا اعتراه الشيب والنحول تماما مثل وجهها المتجعد. وكانت تنتظر إحسان العابرين لها, فتجمعه في يديها وتضعه في صرة جلبابها الممزق البالي. أجاز بها الزمان فأحالها إلي تلك الهيئة المزرية وأجلسها المجلس الصامت المحزن الكئيب؟! يالها من نهاية لتلك المرأة الرائعة إذا صارت إلي ذلك حقا! فويل للزمن! ولها الله وحده. وصرت في غدوي ورواحي, أمر بجوار تلك المرأة حتي صرت أشبه بصديق لها.. يهمني أمرها واستجلاء أسرارها وغموضها, علها تكون هي. ولم أجسر أن أبلغ أحدا بأمر خواطري وسرعان ما انصرفت إلي حياتي وأعمالي متناسيا الآخرين إلاها.. وبغتة حدث ما لم نكن نتوقعه أبدا, فقد أتت.. نعم أتت! في نفس السيارة التي نحفظها عن ظهر قلب, وتقدمت المصافحين والمهنئين بالعودة للزورة من جديد. وتمليتها طويلا وأنا أمامها.. لقد صرت أطول منها بعض الشيء كنت بشبابي وبداية فحولتي وشاربي الذي نبتت بعض شعيراته أمام ذلك النموذج الحي من الجمال البديع وإبداع الخالق العظيم.. مبهورا ومتأثرا. إن الزمن لم يغير منها شيئا, وكأنه خشي أن يضرها بتغيره: فقد ظلت رغم وضوح سنوات العمر الكثيرة علي وجهها.. جميلة. نفس الجمال القديم, العينان الساحرتان إلا أنهما قد ضاقتا بعض الشيء.. لا أدري لماذا؟ ونفس الشعر الأسود وإن شابه بعض الشيب الأبيض, الذي لم يبدو إلا قليلا في فورة الجمال وبين سلاسل النهر الخلاب الأسود, فكان التاج الصغير يزين نهر جمالها البديع. وكان نفس حنانها لم يفتر ولم يصبه ضعف بل ربما زاد فانهمر علي صبية القرية الصغار الذين كنا مثلهم في يوم من الأيام. وأنا في تأملي لها, لم أشعر بالوقت فقد كنت أشتاق لهذا اللقاء منذ زمن, أترقبه حتي جاء فنسيت نفسي معه: مع أمي الثانية وأمنا جميعا! ولم أشعر بنفسي إلا وعيناها تبتسمان لي وترمقاني بإعجاب. وطالت نظرتها لي, فارتبكت, والتفت حولي أتلهي بأي شيء عنها, فراعني انصرافهم جميعا وبقائي وحدي أمامها ومعي صديقي يطوف بأرجاء الأرض كعادته منذ صغره رغم كبره, فتشجعت ورفعت عيني إليها بعد طول إطراق, فسرعان ما وضعت هديتها لي بعد أن وزعت هداياها علي الجميع علي حافة عربتها الفاخرة, واتجهت بكليتها إلي.. فزاد ارتباكي ووضح في ارتجاف أصابع يدي. فابتسمت وضحكت, وسرعان ما أقبلت علي, تضع يدها في يدي.. تتذكرني.. لم تنسها السنون البعيدة شيئا! قالت ضاحكة والابتسامة ملء شفتيها: من زمان ما شفتكش.. أنت بقيت أطول مني! كنت أود أن أسألها عن سر غيابها الطويل, كان ذلك السؤال يلح علي عقلي منذ رؤيتي لها. كنت أريد أن أعنفها.. أزجرها, أكيل لها الاتهامات, أعرفها بأنه مهما نسيها الجميع فلن ينساها اليتيم الذي حرم من حنان أمه فوجد فيها عوضا وبديلا.. كنت أريد أن أقول ذلك وأكثر! ولكن لدهشتي وجدت أن كل ذلك قد تبخر من عقلي وذاب علي أطراف لساني, ولم يبق لي سوي خجلي وترددي أمامها. فواصلت دون أن تنتظر ردي مازحة: أنت بقيت أطول مني بجد.. أنا مش مصدقة! فرفعت وجهي باسما من ملاحظتها التي عنت لي, فابتسمت لها في قرارة نفسي ثم نسيتها. وما إن لمحت شيئا في وجهي, حتي صفقت جذلة كالأطفال, وقالت ضاحكة: والله كبرت يا( مفعوص) وبقالك شنب! فتضايقت من وصفها لي( بالمفعوص), ولكنني فرحت بملاحظتها لشاربي دليل رجولتي, فابتسمت. ولم أكد أتطلع إليها حتي وجدت صديقي الذي كان يقف بجواري حينها..( ينغزني) في جنبي وهو يجري ضاحكا ويصيح: وبقاله ديل كمان! فضجكت ضحكا عاليا. وانتبهت إليه حينها علي ضحكاتها, وأقسمت لأن أمسك ب( زمارة رقبته) لا أتركها إلا وهو يعتذر لي أمامها. وبخجلي مما قال وضحكها عليه, هرعت وراءه غاضبا, علني ألحقه وضحكاتها تتابعني وتزيدني إصرارا علي النيل منه, ذلك الشقي العابث. وحينما عدت لم أجدها, كانت قد طواها الزمن وأخفتها اللحظات القصيرة في طياتها العميقة! وانتهت زيارتها لنا مثلما بدأت.. ككل جميل لا يدوم! كانت مثلما عرفنا قد جاءت بعد طول مرض زوجها الذي أودي بحياته, لتسدي لنا معروفنا بعدم نسياننا لها وسؤالنا عنها في غيابها عنا, فجاءت تعلن الوفاء والإخلاص, وتحاول بنا أن تنسي حزنها ولو قليلا علي زوجها.. يالها من وفية مخلصة! لطالما عذبها في حياته وسمعنا به الكثير مما يفعله معها, ورغم كل ذلك فقد ظلت مخلصة له في حياته وفي مماته.. كم كانت مثالا رائعا للوفاء! وكنا في وداعها جميعا, نهديها الابتسامات قبل الهدايا والخير العميم.. فودعتنا علي لقاء وزيارة قريبة لن تطول مثل السابقات بابتسامة صافية, وخصتني وحدي بابتسامة خبيثة هادئة! وبقيت المرأة العجوز هناك.. تذكرني بها. ورغم تحققي من كذب خواطري وهواجسي عنها, فمازلت أخصها بعطفي وشفقتي عليها وزوراتي الكثيرات لها.. يكفيني أنها تذكرني بها!