المؤكد أن مشهد عشرات الآلاف من أهالي بورسعيد, وهم يشيعون جثامين قتلاهم الذين سقطوا بالرصاص الحي, سوف يظل ربما لسنوات عديدة, أحد أكثر المشاهد تعبيرا عن حجم الأزمة التي تعيشها مصر في الذكري الثانية لثورتها, وربما يكفي للدلالة علي ذلك ما قاله نائب تعكس أجواء العنف التي شهدتها البلاد علي مدار الأسبوع الماضي, أزمة سياسية مستحكمة, تدفع بالثورة المصرية التي أذهلت العالم بمدي سلميتها وتحضرها, نحو نفق شديد القتامة والفزع في آن, ففي الوقت الذي تواصل فيه الجماهير الغاضبة انتفاضتها في الموجة الثانية للثورة, تقف مؤسسة الرئاسة علي شفا انهيار محقق, بعد أن فضلت التمترس خلف سلسلة من الإجراءات والقرارات الاستثنائية, لعبت دورا كبيرا في اشتعال الموقف علي الأرض, بدلا من التعاطي بالجدية المطلوبة مع الأزمة. المؤكد أن مشهد عشرات الآلاف من أهالي بورسعيد, وهم يشيعون جثامين قتلاهم الذين سقطوا بالرصاص الحي, سوف يظل ربما لسنوات عديدة, أحد أكثر المشاهد تعبيرا عن حجم الأزمة التي تعيشها مصر في الذكري الثانية لثورتها, وربما يكفي للدلالة علي ذلك ما قاله نائب بورسعيد البدري فرغلي لاحدي القنوات الفضائية عندما صرخ في لهجة غضب لا تخطؤها عين: الشرطة لم تحترم الموتي, لقد سمح لنا الانجليز بدفن موتانا, والشرطة المصرية تشيعهم بقنابل الغاز والرصاص الحي حتي قبورهم. ربما تكفي مشاهد الحرائق التي اندلعت في العديد من المحافظات, وعمليات التدمير الواسعة لممتلكات عامة وخاصة, للدلالة علي حجم العنف الذي صاحب الموجة الثانية للثورة, وقد كان عنفا متوقعا تتحمل مسئوليته كاملة جماعة الاخوان المسلمين ومن خلفها بعض فصائل قوي الاسلام السياسي, فقد فتحت هذه القوي مجتمعة الطريق واسعا أمام عنف غير مسبوق في مصر, بلغ ذروته في الأحداث التي دارت في محيط قصر الاتحادية مطلع ديسمبر الماضي, عندما دفعت الجماعة بمئات من أفراد ميليشياتها, لفض الاعتصام الذي أعلنه نشطاء في أعقاب انتهاء مليونية الانذار الأخير, وقد تسببت الاشتباكات التي دارت في محيط القصر الرئاسي في سقوط أحد عشر قتيلا, فضلا عن آلاف الجرحي, بعدما اثبتت تقارير الطب الشرعي, استخدام المهاجمين لمختلف أنواع الأسلحة لفض الاعتصام, بما فيها السلاح الآلي. العنف لا يولد سوي العنف, وقد لعبت جماعة الإخوان دورا كبيرا في انفجار الموقف علي هذا النحو, عندما وضعت جهاز الشرطة في مشهد يعيد سيناريو ما جري قبل عامين, في مواجهة الشعب الغاضب, لتدفع الشرطة من جديد ثمن أخطاء سياسية فادحة, وتدخل وهي لا تزال تتجه نحو التعافي مما جري لها في بواكير الثورة, في مواجهات جديدة مع قوي غاضبة, بدا أنها لن تتراجع عن تحقيق أهدافها, في تعديل مسار الثورة التي جري اختطافها من قبل قوي الاسلام السياسي. علي مدار الاسبوع الماضي سقط عشرات القتلي, والآلاف من الجرحي والمصابين في العديد من المحافظات, في موجة فوضي عارمة تجلت بوضح شديد في محافظتي السويس وبورسعيد, وبدرجة أقل بكثير في محافظة الاسماعيلية, وبدلا من أن يخرج الرئيس مرسي ببيان سياسي, يتضمن رؤيته لحل الأزمة المنفجرة, لجأ إلي اعتماد سلسلة من الاجراءات الاستثنائية, بإعلان حالة الطواريء وفرض حظر التجوال في منطقة القناة, والتلويح بإجراءات أكثر قوة لردع ما وصفهم ب المخربين ولانقاذ الأمن القومي للبلاد, ليعيد إلي ذاكرة المصريين خطابا مشابها ألقاه الرئيس الأسبق أنور السادات بعد أيام من انتفاضة يناير الشهيرة في العام1977, وأقر فيه علي قانون علي الهواء مباشرة, وهو ما عرف حينذاك ب قانون السلام الاجتماعي وحظر التظاهرات. بدا الرئيس مرسي غاضبا ومحتقنا في خطابه الذي لم يخل من لغة تهديد, بدت واضحة في تكرار اشارته باصبعه ليعيد إلي الذاكرة ما فعله السادات, عندما راح يخبط علي الطاولة أمامه بيده, ويتوعد المخربين والحرامية الذين يستهدفون إسقاط الدولة, قبل أن ينادي بطريقته الشهيرة علي أحد الموظفين في مكتبه الرئاسي: هات القلم يا ولد, ليوقع علي الهواء مباشرة, ومن دون الرجوع إلي مجلس النواب, في مشهد متطابق نقلته فضائية الجزيرة قبيل دقائق من ظهور الرئيس مرسي علي الهواء, القانون رقم2 لسنة77, الذي يقضي بحظر التظاهر في البلاد, ويمنح الرئيس صلاحيات واسعة بزعم حماية السلام الاجتماعي, في محاولة لقمع التظاهرات الغاضبة التي خرجت احتجاجا علي غلاء الأسعار, ما دفع السادات إلي الاستعانة بالجيش بهدف قمع المظاهرات. ويقول المشير عبد الغني الجمسي الاسبق في مذكراته أن السادات طلب منه نزول الجيش لقمع التظاهرات الغاضبة, لكنه طلب منه أولا إلغاء حزمة القرارات الاقتصادية التي تسببت في غضب المصريين وخروجهم إلي الشوارع, مؤكدا أن الجيش لا يمكن أن يرفع سلاحه علي الشعب. رضخ السادات لرغبة المشير, ليستبق نزول الجيش إلي الشوارع بإلغاء حزمة القرارات التي كانت قد انتهت إليها المجموعة الاقتصادية بمجلس النواب, والتي كانت تقضي برفع الدعم عن25 سلعة أساسية, مثل الخبز والسكر والشاي والأرز والزيت والبنزين, ليعلن بعدها حالة الطواريء وحظر التجوال, لكن ذلك كله لم يغير شيئا اذ سرعان ما لقي مصرعه بعد سنوات قليلة, في حادث اجرامي فتح الباب أمام موجة عنف غير مسبوقة شهدتها مصر علي مدار فترتي الثمانينيات والتسعينيات. إنه العنف عندما يفتح أبواب الجحيم.