أنا أعشق السودان شعبا وأرضا وتاريخا, لكن ذلك لا يعني اطلاقا ان السودان هو الحديقة الخلفية لمصر, ولايعني ابدا اننا شعب واحد ودولة واحدة, وبالتالي لا يمكنني ان اعتبر السودان عمقا استراتيجيا لمصر بالمعني السياسي قصير النظر الذي يمكنه ان يحول الطاقة الايجابية الكامنة في العلاقات بين البلدين إلي عداوة وكراهية لن نتحدث عن الانتخابات الصعبة والمعقدة التي جرت في السودان طوال5 أيام كاملة( بعد ما يقرب من ربع القرن من تغييب هذا الشعب العظيم عن اي انتخابات) والتي من المقرر ان تعلن نتائجها اليوم, الحديث يجري عن مسألة اخطر بكثير من الانتخابات, الا وهي استئساد دول منابع النيل( بوروندي والكونغو الديمقراطية واثيوبيا وكينيا, ورواندا وتنزانيا وأوغندا) بإصدار بيان رسمي فجرالاربعاء الماضي أكدت فيه أنها ستبدأ في14 مايو المقبل اجراءات التوقيع علي الاتفاقية الإطارية منفردة دون مصر, والسودان علي الا تزيد مدة صلاحية هذا التوقيع علي عام واحد, ومن الواضح ان دول حوض النيل تنقسم إلي معسكرين الاول يضم دولتي الممر( السودان) والمصب( مصر), اما الثاني فيضم دول المنبع وهي اثيوبيا وكينيا وأوغندا وتنزانيا وروندا وبوروندي, واريتريا, مما يضع كلا من السودان ومصر أمام معسكر افريقي قوي, يرفض الاعتراف باتفاقيتي توزيع مياه النيل الاولي في عام1929 والتي اعطت مصر النصيب الاكبر51 مليار متر مكعب والسودان18 مليار متر مكعب من المجموع الكلي لمياه النيل التي تقدر بحوالي82 مليار متر مكعب والثانية في عام1959. قد يطول الحديث عن أهمية مياه النيل لمصر والسودان, ولكن في الحقيقةسنكون في غاية السذاجة لو جلسنا ولطمنا الخدود ومزقنا الجيوب لاننا نعرف من زمن طويل ان النيل في خطر وهو عنوان كتاب للراحل كامل زهيري نوقش بشدة في زمنه, ولما لم يصدق أحد انذاك كلام زهيري, فقد أجبرنا الزمن علي التصديق مع تغير النظام الدولي وموازين القوي الدولية, والتغيرات السياسية والاقتصادية والجيوسياسية, والاخيرة بالذات هي الاهم لتعلقها بنفوذ مصر الإقليمي الذي انحسر امام مد اخر ليس فقط لاسرائيل في المنطقة الافريقية, فهناك نفوذ بريطاني وفرنسي وامريكي تاريخي, لكن النفوذ المصري لم يكن استعماريا او استعماريا استيطانيا, بل كان نفوذا وتأثيرا علي ارضية الشراكة التاريخية في قارة افريقيا التي تنتمي اليها مصر, وكان نفوذا يستند إلي المصالح وافاق توسيعها وتجذيرها. اليوم توجه الادانات والاتهامات لإسرائيل فقط, فهل نلوم اسرائيل علي امعانها في تحقيق مصالحها؟ إذن أين نحن من تحقيق مصالحنا القومية والاستراتيجية, إذ يعتبر النيل احد أهم عناصر الامن القومي والاستراتيجي المصري؟ إلي أن ذهب النفوذ المصري في افريقيا, ولصالح من؟ قد تكون مصر عظيمة بحد ذاتها ولذاتها, ولكن هذا الكلام يقال في كتب التاريخ والروايات والاشعار, اما السياسة والمصالح الامنية والاستراتيجية بعيدة المدي فلها مواصفات وعوامل اخري تتطلب المزيد من اليقظة ومد النفوذ والتأثير ليس بالطرق العسكرية, بقدر توسيع العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والاهتمام بالشأن الافريقي, بل وبوضعه علي سلم اولويات السياسة الخارجية المصرية في تواز كامل مع المتجه العربي. هل تمكنت اسرائيل في لحظة واحدة من السيطرة علي دول منابع النيل؟ اشك في ذلك, هل استطاعت الاستثمارات الصينية( حيث توظف بكين40% من استثماراتها الافريقية في السودان وحده!) أن تنتشر هكذا في لحظة واحدة في كل افريقيا؟ إن رجال الاعمال الاسرائيليين منتشرون في كل دول إفريقيا كاسرائيليين وكرجال اعمال يحملون جنسيات أخري بل ويسافر مواطنون ينتمون إلي دول أوروبية ضمن وفود هذه الدول وكل رؤوس أموالهم تعمل في اسرائيل, لقد تمكنت تل ابيب من اختراق غالبية وفود الدول الاوروبية عن طريق السياسة, والمعادلة واضحة: لنلعب معا في افريقيا( والسودان مثال واضح لذلك), لكي نوفر لكم دورا ما في حلحلة قضية الشرق الاوسط؟هذه المعادلة موجودة وسارية المفعول. الدول الافريقية في حاجة ماسة إلي مشاريع زراعة وري ومد شبكات طرق ومواصلات وكهرباء, والسودان الشقيق علي سبيل المثال في حاجة ماسة إلي كل ذلك ايضا, هذا الكلام ليس به اي جديد, ولكنه يتكرر اليوم لاننا اصبحنا أمام امر واقع ولا مفر من وضع تصور او استراتيجية قابلة للتحقيق علي الفور قبل أن نساوم فيما بعد علي اقل ما يمكن. الفرصة لاتزال سانحة لعقد اتفاقيات اتحاد جمركي, وإقامة مناطق للتجارة الحرة, وتدشين مشاريع طويلة الامد وواسعة النطاق, قد تكون هذه التصورات البسيطة التقليدية افضل بكثير من تصورات الوحدة وأوهام الحدائق الخلفية والاعماق الاستراتيجية. إن انغلاق رؤوس الاموال المصرية وتقوقعها وقصر نظرها يحرمها من اكتساب الخبرة التاريخية والتطور ومن ثم الدور التاريخي, ويفقد الدولة النفوذ والتأثير حتي علي المستوي المحلي والإقليمي, وإذا كان الامر كذلك, فغياب مشاريع الدولة في الخارج هو انعكاس طبيعي لغياب مشاريعها في الداخل, ومع ذلك فالحلقة ليست مغلقة والدائرة ليست مفرغة رغم صعوبة المعادلة وتعقيدها, هناك وقت وإن كان قليلا, إلا أن التعامل الجدي والمسئول مع الملف الافريقي عموما, والملف السوداني علي وجه الخصوص, سيعكس مدي المهنية في التوجهات الخارجية للسياسة المصرية, ومدي الحرص علي مصالح الوطن وعلي مستقبله بناسه وأرضه.