ما يحدث الآن علي الأرض في سوريا أمر يصعب وصفه في جملة واحدة.. فالأمر بالغ التعقيد. البلد أصبح مسرحا للعمليات تدار فيها حروب بالوكالة, يدفع ثمنها الشعب السوري وحده من دماء أبناءه ومن استقراره, سوريا الشقيقة تحترق من الداخل, بداية من أفراد الشعب مرورا بالمباني والمعاني والتراث الثقافي وكل مقوماتها الاقتصادية وبنيتها الأساسية. وتيرة الحرب الأهلية الشرسة تزداد اشتعالا بين طرفين لا يبدو في الأفق القريب ولا البعيد أن أحدهما مستعد للتسليم بالهزيمة ورفع الراية البيضاء.. صراعا يبدو أبديا لا ينتهي إلا بإبادة أحد الطرفين للآخر, أو تعجيزه وشل حركته بصورة نهائية. أعداد ضحايا هذه المحرقة الأهلية تتزايد يوميا بمعدلات مخيفة ومؤلمة.. الأسد.. وهو الطرف الذي بدأ استخدام القوة في الصراع كان يملك وحده الأسلحة الثقيلة والطائرات وإرادة الحرب لايزال متمسكا بخيار الحرب لأبعد مدي مهما كان الثمن فادحا من أرواح الشعب السوري, مدفوعا لاستكمال مسيرته إلي آخرها, حتي لو نهاية الصراع تحمل نفس ملامح سيناريو نهاية الرئيس الليبي السابق معمر القذافي, بمساندة روسية لا تعرف التراجع.. ولم يعد الأسد وحده الذي يمسك بدفة الأمور. المعارضة أمام قسوة الجيش السوري تخلت عن سلميتها وصارت مسلحة, وتتلقي دعما عسكريا خارجيا كبيرا من أطراف إقليمية ودولية متعددة أصبحت في وضع يمكنها من مواصلة المقاومة وأيضا بلا حدود( علي طريقة حروب الاستنزاف), وأصبحت قادرة فنيا وتكنولوجيا وتسليحا وتدريبا علي تكبيد الجيش النظامي خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات, والاستحواذ علي مساحات واسعة من مسرح العمليات الذي يشمل سوريا كلها, والاستيلاء علي وحدات عسكرية كاملة بأسلحتها وأسر مقاتليها.. المعارضة المسلحة أصبحت خصما مكافئا وندا قويا. جهود الوساطة الدولية لوقف الحرب وصلت أقصاها من جانب المبعوث العربي الأممي الدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي دون تسجيل أي إنجاز حقيقي يذكر.. فأوار الحرب يزداد اشتعالا والضحايا تتزايد أعدادها والمواقف الدولية متصلبة. الإبراهيمي حذر أمس بعد وصوله إلي موسكو ولقائه بوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف, من تدويل الأزمة, وتحول سوريا إلي صومال جديد, مؤكدا أن الأمر سيكون له عواقب وخيمة علي المنطقة بأكملها, وأضاف أن إيجاد حل للأزمة في الوقت الحالي شديد الصعوبة, مكررا تمسكه بالحل علي أساس اتفاق جنيف الذي أرساه كوفي عنان, ومشددا علي أن تلك المبادرة لا تزال قائمة, ويمكن تعديل بند أو أكثر فيها, إلا أنها تبقي المبادرة الأنجع حتي الآن, واصفا هذا الاتفاق بالرائع. وكشف عن أنه قدم حزمة شاملة للحل في سوريا, بشرط البدء بوقف العنف وإجراء انتخابات نزيهة كخطوة بعدها, مع وجوب البدء بإرسال مراقبين دوليين. موسكو تبدو وكأنها تدفع الأسد إلي حرق أصابعه.. فهي تسانده عسكريا ودبلوماسيا وتحرضه علي المضي قدما في موقفه رغم علمها بشراسة المقاومة وبمن يقف ورائها,وتنتقد المعارضة السورية بشدة, وتعلن في الوقت نفسه أنها مع الحل السلمي للأزمة وتدعوها للتفاوض. المعارضة من جانبها لم تعد تعتبر روسيا طرفا محايدا, وبالتالي أعلنت رفضها الذهاب لموسكو قبل رحيل الأسد, في الوقت الذي عبر فيه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن مفاجأته من موقف رئيس الائتلاف السوري معاذ الخطيب, معتبرا أنه نابع من عدم خبرة سياسية, وجاء بإيعاز من أطراف خارجية. وأضاف قائلا: إذا كان الخطيب يعتبر نفسه سياسيا جادا يجب عليه أن يستمع إلي موقفنا مباشرة. لافروف أكد أن الصراع في سوريا بات يتخذ شكلا طائفيا, وأعلن أن الأسد عبر للإبراهيمي أنه غير عازم علي الرحيل, وسيبقي في منصبه ليدافع عن مصالح سورية الوطنية, ولا يمكن تغيير هذا الموقف!! تصريحات وزير الخارجية الروسي تؤكد أن موسكو تلعب دورا أهم من دور الوسيط المحايد, بل هي طرف أصيل في الصراع ولو بدفع الأسد لإكمال المباراة إلي آخرها من دون الاهتمام بنزيف الدم المتواصل علي الأراضي السورية. يأتي ذلك في الوقت الذي نشرت فيه قناة العربية الإخبارية علي موقعها الالكتروني أمس تقريرا كشف فيه ضابط سوري منشق, عن وجود2500 ضابط سوري من رتب مختلفة في السجن الأحمر بصيدانا وهو سجن سيء السمعة, زج بهم نظام الأسد هناك منذ ما يزيد عن عام بينهم ضباط من الكلية الحربية, ومن الفرقتين التاسعة والسابعة. فيما تتواصل عمليات الانشقاق الواسعة عن صفوف الجيش السوري حيث أعلن ضابطان في القوات الجوية السورية برتبة لواء طيارانشقاقهما عن الجيش منذ يومين, بعد أن لجآ إلي تركيا لينضما إلي مئات العسكريين الذين انشقوا عن النظام, كما أفاد دبلوماسي تركي, الذي أكد وصولهما إلي بلاده بعد اجتيازهما الحدود التركية السورية مع عشرات من الجنود السوريين الآخرين وعائلاتهم عند قرية ريحانلي الحدودية في محافظة هطاي. وحتي كتابة هذه السطور ارتفعت حصيلة القتلي بين السوريين أمس فقط إلي372 قتيلا في يوم واحد ما يشير إلي خطورة ما يجري علي الأرض في سوريا وخروج الأمور عن السيطرة واقتراب ساعة النهاية.