انطلقت الزغاريد تدوي في الآفاق وهي تشق أجواء مدينة أشمون معلنة أن "وفاء" ذات العشرين ربيعا قد تمت خطبتها لابن عمها وانهالت التهاني والقبلات علي خدي الفتاة الواجمة المستقبلة الأحضان بتعبيرات باردة وتجاري أجواء المناسبة التي يتباري الجميع فيها لإبداء سعادتهم وبهجتهم بشكل آلي، وشعرت الفتاة بأنها تؤدي دورا فرضت عليها تأديته بأداء تمثيلي. وما ان اقترب منها والدها يقبل رأسها حتى مالت برأسها علي أذنه تخبره برفضها الأمر واعتبار ما يحدث تمثيلية غير مقنعة، واستقبل الأب كلماتها بسعة صدر وابتسامة واسعة زادت من حنقها وسرعان ما اختطفتها احدي قريناتها تشدها للرقص مع النساء السعيدات وأخذت العروس الجديدة تدور وتدور في دوامة الرقص وسط الضحكات والقفشات الباسمة من نساء العائلة، ومر اليوم كأقرانه الكل سعيد مبتهج إلا الفتاه التي ما ان انفض السمر وأغاني العرس والليالي الملاح حتى انسلت هاربة إلي مخدعها تسقي بدموعها جلبابها وخدها وسريرها وهي تري كل شيء أمامها سواء لا تهتم ولا تتمني العيش حتى تسلل إلي مسامعها أذان الفجر كانت وصلت في قراره نفسها إلي أنها لن تعيش أسوأ من هذه الليلة. - ولكنها كانت واهمة، وفي الصباح حاولت التفاهم مع أمها معلنة رفضها ابن عمها، ولكن الأم اخبرتها، أن ما يدور في رأسها خارج تقاليد العائلة التي لا تسمح بأن يخرج النسب خارج العائلة وأن ابناء العمومة أولي من أي عريس تفكر فيه، وبالرغم من تأكيدات الفتاة أنها لا تفكر في غير ابن عمها مطلقا إلا أن الأم اوصتها بعدم اعلان رفضها حتى لا توصم بما ليس فيها، وشعرت الفتاة بأن كل من حولها يصم أذنيه ويغمض عينيه عن ما تشعر به وتعانيه، ومرت الأيام التالية قبل الاستعداد ليوم الزفاف إلي ابن العم في دوامة تلو الأخرى من الحزن وأغلقت عقلها وقلبها أمام نصائح ممن يزعمن أنهن عاقلات يعرفن مصلحتها وأن الزواج "سترة" وأن أيامها القادمة رغدة ستتقلب وتنعم في لياليها، واستقبلت الفتاة كل النصائح كما استقبلت غيرها من قبل، وجاءت الليلة الموعودة واستمعت لهمس الأم والنساء وأطاعت ونفذت ما طلبن ومرت ساعاتها ببرودها الرافض للحياة ولكل مظاهر العرس والزفاف. حاولت وفاء عقب الزواج أن تساير الأمور وتنفذ ما وصيت به إلا أنها شعرت بالفشل، وبدأ يتسلل اليها أنها تعيش في جحيم، وبالرغم من زيارة الأهل والأقارب والتوصية بأن تنسي أنها لم تستشر قبل الزواج في الارتباط وأن كثيرات مثلها كانت حياتهن أسوأ في البداية والآن هن من أفضل الأمهات إلا أن تراكمات المواقف السيئة في ذهنها صنعت سدا منيعا انهارت عليه كل الأماني الطيبة لاستمرار الحياة الزوجية. وأخيرا حسمت العروس الجديدة أمرها وطلبت الطلاق وفوجئت بتيار عات من الرفض من الجميع، وكيف تسئ إلي سمعتها؟ وأهلها ماذا يقولون وكيف يبررون طلاق ابنتهم بعد شهر من الزواج؟ حتى الأقارب أرعبوها من أن تلحق بها لفظة مطلقة. وفي احدي الليالي نامت وفاء مرهقة من شدة الارهاق في نقاش يطول ويطول ولا ينتهي حول وجوب استمرار حياتها الزوجية والصبر علي الحب الذي هو آت بلا ريب بمرور الوقت، وبعد فترة ليست قصيرة تنبهت حواسها واستيقظت دفعة واحدة، وتلفتت حولها وشعرت بأنها حبيسة في منزل الزوجية وأنه آن الأوان أن تتحرر وحسمت أمرها واتجهت إلي "دولاب" ملابسها وحملت حقيبة صغيرها كدست فيها ما شعرت بأنها ستحتاج إليه. وتحسست خطواتها واحدة تتبع الأخرى حتى وصلت إلي الباب الخارجي وفتحته بهدوء وارتفع صوت مفصلاته صريرا عاليا وهب من فتحته تيار بارد ملأت وفاء رئتيها منه وأحست بأنها أكثر ثقة وأكملت طريقها إلي الخارج لا تلوي علي شيء قابضة علي حافظة نقودها. ووصلت قدماها إلي محطة الميكروباص وانتهي بها الحال جالسة داخل السيارة المتجهة إلي كفر الشيخ ومن محافظة إلي أخري حتى استقر بها الحال واقفة داخل محطة التل الكبير بالإسماعيلية تنظر إليها سيدة مسنة بعد أن أوصلت ابنتها تماسي تيار لا تعرف وفاء وصفه بينها وبين هذه المسنة الحانية التي اقتربت منها وبعد مقدمات التعارف المعتادة كانت وفاء تتوضأ في منزل المسنة للصلاة والمبيت في بيتها كمأوي أخير لرحلة تنقلاتها الأخيرة، واستقر الحال في بيت هادئ تعيش فيه المسنة علي معاش زوجها الثري السابق، ومضت الأيام شعرت وفاء بأنها استراحت بعد ماراثون طويل من العذاب، وتوالت الأيام والشهور علي وفاء سعيدة بدعاء المسنة لها كل ليلة وفي احد الأيام وبعد مرور ستة أشهر ويومين أحست بأن قلبها يحن لرؤية أبيها وأسرتها الذين نسيتهم بعد هروبها وترك منزل الزوجية، فتذكرت أنها تحتفظ برقم إحدى زميلاتها منذ الطفولة فاتصلت بها لتطمئن علي أخبار أسرتها، ووضعت الهاتف علي أذنيها تستمع إلي رنين تليفون الزميلة من الطرف الآخر، وما ان سمعت زميلتها كلمة "وفاء". حتى أعقبتها صدمة سكون وبعد محاولات التيقن والتأكد ردت عليها الزميلة "أنت ميتة. ووالدك تسلم جثتك الغارقة ومشي في جنازتك ودفنك بيديه في مقابر العائلة". جف حلق وفاء وهي تسمع خبر موتها بأذنيها، وشعرت بأن العرق يغزو وجهها وجسدها وأن أطرافها يصل إليها قطيع من النمل، وأحست بأن شيئا سيئا حدث لعائلتها بعد هروبها من البلدة. وعادت إلي السيدة المسنة قبلت رأسها وقدميها شاكرة لها حسن ضيافتها وودعتها المسنة بالدموع، ودست في يدها ما يوصلها إلي بلدتها. وكان اللواء أحمد عبدالرحمن مدير أمن المنوفية قد تلقي بلاغا من الرائد نصر القارح رئيس مباحث أشمون يفيد بتلقيه بلاغا من "وفاء.م. ا" 20 سنة ربة منزل من قرية جريس بأشمون تؤكد تركها منزل زوجها نجل عمها منذ شهر يونيو الماضي لخلافات زوجية وأقامت بالإسماعيلية طرف سيدة مسنة بعد تنقلها في أكثر من محافظة، وأنها علمت بقيام والدها بتسلم سيدة بذات أوصافها واستخرج شهادة وفاة لها، وبسؤال والدها أكد أنه قام بتاريخ 27 يونيو الماضي بتحرير محضر رقم 49 أحوال أشمون بغياب ابنته وبعد فترة عثر علي جثمان سيدة وضعت بثلاجة مستشفي أوسيم متوفية غرقا فقام بتسلمها ودفنها بمدافن الأسرة واستخراج شهادة وفاة لها، تم تحرير محضر رقم 12697 إداري مركز أشمون وأخطرت النيابة لمباشرة التحقيق. رابط دائم :