وسط ما يلاحقنا في مجتمعنا المصري مؤخرا من أحداث مؤسفة ومخزية يندي لها الجبين.. ووسط هذا الصراع والتطاحن الذي استشري في جسد أمتنا وفرق الأخ عن أخيه من جراء هذا البلاء الذي أصابنا في الصميم وقسمنا إلي شيع وفرق متباينة لا يسع المرء سوي الهروب إلي الماضي.. ليس هروبا بالمعني الضيق لهذا المصطلح.. لكنه رفض للواقع اليومي المعاش واحتجاج علي ما نلاقيه فيه من ويلات.. وهو في نفس الوقت استشراف لقيم الماضي الجميل التي سادت مجتمعنا وأمتنا حين كنا مجتمعا مثاليا يحيا علي القيم وأولها الولاء والانتماء الصادق لمصر.. كنا نسيجا متحابا متجانسا تعلوه القيم ويظلله الأمن والآمان. كانت مصر فوق كل اعتبار لأنها الشرف والعرض.. وكان أولادها جميعا تحت تصرفها ورهن إشارتها. * القلب موجوع ومكلوم لما آلت اليه أحوالنا حين أضحي منظر الدماء المراقة لأخوة لنا في الوطن أيا تكن مشاربهم أمرا مألوفا نطالعه كل يوم.. وحين أضحي منظر هدم وتدمير مصر حدثا عاديا تتناقله نشرات الاخبار كما تنقل أخبار مباريات المصارعة أو كرة القدم..! كما قلت لم يجد المرء سوي الحنين إلي الماضي حتي لا يفقد آخر ما تبقي له من العقل..! * أذكر أنه عقب أحداث عام67 التي أطلقوا عليها اسم( النكسة) كنا جميعا في حالة انهيار وعدم توازن غير مصدقين اطلاقا ما حدث.. كانت النكسة امرا مهولا أضاع كل ثرواتنا العسكرية والبشرية والمادية في غمضة عين! * قبل النكسة كنا نحلق في عنان السماء خاصة مع تلك الحشود الرهيبة التي رأيناها تحتل مواقعها علي أرض سيناء بمصاحبة الزخم الاعلامي الذي كان( حليم) أبرز رموزه بأغانيه التي تلهب المشاعر.. وجاء يوم الاثنين5 يونيو وسط أخبار الاجتياح الكاسح الذي حققناه ثم تلته فترة الصمت الرهيب علي رأي عمنا كامل الشناوي لتتكشف لنا رويدا رويدا ملامح الموقف المباغت الذي ألم بنا, فكنا نسير في الطرقات مطأطئي الرؤوس فاغري الافواه غير مصدقين ما حدث.. ولأننا شعب طيب فقد تسامحنا وصدقنا ماساقوه لنا من أقاويل ومسرحيات هزلية! صحيح ان معارك الاستنزاف ونصر أكتوبر المجيد قد صححا المسار لكن الحزن الدفين لا يزال كامنا بصدور كل من عاشوا تلك الفترة لأن الحدث كان كبيرا ومزلزلا وما كان ينبغي أن يمر بهذه البساطة لانه متعلق بمصير أمة وحياة شعب فضلا عن آلاف الأرواح التي أضاعتها السياسات العنترية.. فالأسلحة المختلفة وسلاح الجو تم تدميرها علي الأرض ناهيك عن أجساد أخوتنا وأبنائنا التي روت بدمائها الطاهرة رمال سيناء بعدما أحرقها آتون النابالم.. لكننا اكتفينا بمقولة التنحي الشهيرة وعفا الله عما سلف..! * أذكر انه في صيف68 تكونت بجامعة القاهرة فصائل خدمة الجبهة ليقف الطلاب مع أخوتهم الجنود جنبا إلي جنب علي خطوط النار.. كنا في سنواتنا الجامعية الأولي وكنا تواقين لتقديم أرواحنا فداء لمصر لنغسل عنها هذا العار الذي ألم بها.. امتلأت المدينة الجامعية عن آخرها بشباب الجامعة.. كان كل فوج يضم1000 طالب مما اضطر ادارة الجامعة لاعداد كشوف نهائية تضم المحظوظين علي أن يرحل من لم يصبه الدور إلي الافواج التالية.. حين وجدنا اسماءنا تهللنا وطرنا فرحا وأخذنا نعانق بعضنا بعضا وحولنا آخرون يبكون ويصرخون إلي درجة التمرغ علي الارض لحرمانهم من هذا الشرف وكأنهم رسبوا في الامتحان..! تسلمنا معداتنا العسكرية وأسلحتنا التي كنا قد تدربنا عليها في حصص الفتوة والتدريب العسكري بالثانوي والجامعة.. حملتنا السيارات إلي المواقع المتقدمة للجيش الثالث علي مشارف مدينة السويس حيث مكثنا مع أخوتنا لمدة شهر في تلاحم كامل مشاركين اياهم في بناء المواقع ودشم الصواريخ لتكون حائط صد منيع في وجه الأعداء فضلا عن نقل وتوصيل الأسلحة والذخائر والماء والتعيين إلي المواقع.. كنا نعمل طوال الليل حتي لا يرانا العدو القابع امامنا علي الضفة الشرقية للقناة.. وكم زحفنا خلسة بجوار الساتر الترابي بلسان بور توفيق متسلقين البنايات المطلة علي مياه القناة ناظرين إلي جنود العدو الذين يروحون ويجيئون في تيه وخيلاء عبر دروب خط بارليف ودشمه الحصينة التي ظنوها منيعة...! * أذكر في تلك الفترة أن كثيرين من رجالنا الأبطال كانوا يعبرون القناة في مهام بطولية ليلية ملتحمين مع جنود العدو في قتال ضار عائدين بحمد الله بالمزيد من الاسلحة والمعدات التي استولوا عليها فضلا عن قطع مميزة من أشلاء من قضوا عليهم دليلا علي الاعداد التي نجحوا في القضاء عليها.. ولا أنسي ما حييت تلك الليلة التي أطلعنا فيها الرقيب مجند( عبدالفتاح) من كفر الشيخ القابع في الجيش منذ احد عشر عاما علي الاوسمة التي حصل عليها والتي تؤكد نبوغه وتفوقه في رحلات العبور الليلي وهي عبارة عن منديل محلاوي يضم اجزاء بشرية لسبعة من جنود الاعداء ماتوا علي يديه وكان يحفظها في الملح. أذكر ايضا ان طائرات العدو أغارت علينا ذات ليلة في موجات متتالية بهدف تدمير ما بنيناه من حائط الصواريخ.. كانت المعركة حامية وكان كم النيران كثيفا, لكن دفاعنا الجوي كان لهم بالمرصاد اذ ظلت مدافعه تلاحقهم من كل جانب حتي اجبرتهم علي الفرار.. ثم عادوا من جديد مساء اليوم التالي لتشغيل قذائفهم النار بخزانات البترول بمنطقة الزيتية محدثة سحابة كثيفة من الدخان غطت مدينة السويس بأكملها.. كانت الساعة تقترب من الثانية صباحا حين هبت أسلحة المنطقة بكاملها ناشرة حائط صد منيع من النيران.. كنا نهرول حاملين دانات مدفعية الميدان والهاون والدبابات وال م ط واضعين اياها علي مدافعها لتطلقها في سائر الانحاء. وفرت الطائرات بينما سقطت احداها في مياه خليج السويس.. وحين بزغ الفجر اخذنا نلملم أشياءنا ونزيل آثار المعركة وما تركته من ركام.. واحتضنا في اجلال اجساد أخوتنا من الطلبة والجنود الذين لقوا ربهم في تلك المعركة والذين رووا بدمائهم الطاهرة أرض السويس مسطرين أنصع السطور في سجل حب مصر. في تلك الايام العزيزة علي النفس كان النسيج المصري في أحسن حالاته.. كنا جميعا أفراد أسرة واحدة وبيت واحد يلتقون حول هدف أسمي هو حب مصر.. كنا جميعا نحمل أرواحنا علي أكفنا فداء لبلدنا.. ظلت معارك الاستنزاف متواصلة إلي أن توجها نصر أكتوبر العظيم الذي أعاد الكرامة المصرية والعربية.