إن التاريخ يظهر أن الحسابات الاعتيادية يمكن قلبها بحكمة ودأب الشخصيات الفذة الاستثنائية هذه هي منهجية كيسنجر, في إدارة المعتركات السياسية الحادة. وقد اتخذها أوباما دستورا نبيلا في خوض الجولة الانتخابية الطاحنة التي دارت رحاها للاستحواذ علي العقل الامريكي لتشق له طريقا للمستقبل بعد أن انحدر به أشواطا في الماضي! فرغم انزواء شعبية أوباما, إلا أن ذلك كان سببا محوريا في اجتيازه دوائر الخطر, إذ أخضع ذاته لمعايير تقييم جديدة استطاع بها اجتذاب الجموع المنفلتة من قبضته وإعادتها إلي مثلث برمودا السياسي. والمتفحص لبرنامجه لابد أن يستلهم تلك المعاني, ذلك بعد أن اجتاحت التأزمات الكيان الأمريكي وأحاطت به كارثيات خارجية مما مثل به ضائقة حضارية, فأصبح مطوقا مغلولا يستمد السيادة علي العالم كفكرة من ماضيه المتجبر وليس كممارسة من حاضره المبهوت!!.. ولعل الصحوة السياسية تعد الآن هي المطلب العالمي الأوحد من أمريكا ذلك علي صعيد إقرار العدل الإنساني ونبذ القوة كقيمة وإعلاء مدلول التفوق الحضاري كنموذج يحتذي, ذلك علي سبيل المنافسة وشحذ الآخر وليس علي سبيل التبكيت والتهكم السياسي الذي أشعل نوازع الاستعداد التي جعلت أمريكا هي موضوع النقاش السلبي في جميع طرائف الحوار العالمي. فهل يمكن أن يوجه أوباما مسار السياسة الأمريكية في حقبتها الجديدة نحو التوازن بين مطالب هذه السياسة وأهدافها فيما يتسق والصالح العالمي باعتبارها لا تزال هي الدولة الكبري المتحكمة في بعض المقدرات الكونية المعاصرة؟ أم أن التجربة الجديدة لأوباما ستكون نسخا متطابقا مع التجربة القديمة بكل مثالبها وهو ما يدفع بالتاريخ السياسي المعاصر إلي أن يكرر نفسه بأحداثه وأشخاصه؟! ولاشك أن معطيات اللحظة هي من الصعوبة بل والاستحالة لكنه التحدي والرهان العسر الذي يستهدف التطويع وليس التغيير الجذري لتلك السياسة التي اعتادت نمطيات استراتيجية لم تستطع الظروف والمتغيرات تحييدها. إن أجندة المشروع السياسي الأمريكي يجب ألا تخلو مستقبلا من خطوات تتسم بالمصداقية والمكاشفة إزاء قضايا العالم العربي والقضية الفلسطينية علي وجه الخصوص, باعتبارها قد باتت هي الملحمة السياسية المستوجبة للحسم والقطع, وحين أعلن أوباما سابقا في إحدي مرحليات تلك القضية أنها فائقة للتصور في تعقيداتها وإشكالياتها المتجردة.. فإنه اليوم يناط به وبكل شخصية استثنائية في المجتمع الدولي أن توظف طاقتها لوقف طوفان الدم الهادر وذلك يكبح الطموحات السياسية غير المشروعه وتقزيم القوة الغاشمة المعتدية وتهذيبها, وكفي أن تظل القضية وهي في عقدها السابع ممثلة لوصمة تؤرخ للخلل الاستراتيجي وذكري مؤرقة دوما للضمير السياسي. أن المشروع السياسي الطموح لأوباما يجب أن ينفتح علي العالم بطابع إحيائي يستلهم فيه قيم ومبادئ الآباء المؤسسين من أمثال جيفرسون وفرانكلين مستدعيا ومضات التاريخ المشرق في صيغة حداثية لاتترك مساحة ولوضئيلة لإرهاصات مشروع توسعي همجي تقتحمه القيم المتهالكة التي أودت بالهيبة الامريكية من قبل, فمعايير السياسة تسمح بالخطأ في أدني معدلاته لكنها لاتسمح باحتمالية تكرار الخطأ مطلقا. وعلي ذلك تري ماهي الفلسفة السياسية التي سينتهجها أوباما تجاه العالم العربي باعتباره البؤرة الملتهبة علي محاور الخريطة الدولية لاسيما بعد بانوراما الثورات المتوالية ومدي الحاجة الفاعلة لتكريس مفهومات حضارية غابت عنه آمادا طويلة؟ وماهو نصيب القضية الفلسطينية في الاستراتيجية الامريكية التي يفترض أن تكون متجددة مع كل انعطافة زمنية؟ وإلي أي مدي سيتصل ذلك الانحياز المطلق للدولة الاسرائيلية؟ وماذا حصدت الولاياتالمتحدة من جراء ذلك الانحياز؟ وهل يمكن أن يكون انحيازا مجردا لايضير بمصالح الآخر؟ أم أن مصالح هذا الآخر هي دائما غير ذات قيمة مالم تتوافق مع المصالح الأمريكية أو تتسق مع مصالح دولة إسرائيل؟ وهل يمكن طي الملف الايراني أو ملف الجحيم العربي وتجنب المنطقة أهوال حرب شعواء؟ وماهو المردود المعنوي والحضاري علي أمريكا وأوروبا مع الهبات العاصفة علي الأديان لاسيما الدين الإسلامي؟ ألا تضع أمريكا في اعتباراتها السياسية والاستراتيجية أن الحروب الدينية لاتعبأ بتفوق الآلة العسكرية ضمن طرفي المعادلة الصعبة؟ ثم قبل ذلك وبعده ألا يفكر العقل الامريكي في كيفية استعادة بناء الامبراطورية الاقتصادية التي أوشكت علي التلاشي؟ وإذا تبددت آليات السطوة الاقتصادية فكيف يتم الاحتفاظ بالنفوذ السياسي الدولي؟ أنها تساؤلات كثيرة يجب أن تظل مطروحة مع غيرها علي هواة بقاء الامبراطورية الامريكية وعشاقها الذين يبغون لها الخلود والمجد التاريخي دون أن يكون لها ميثاق للسلام!!