كايروس.. كلمة يونانية تعني اصطلاحيا الفعل المناسب في اللحظة المناسبة, والكلمة معروفة ومشهورة في الأوساط الثقافية الغربية, لاسيما المسيحية منها. فالكلمة مستخدمة بهذه الدلالة في اللاهوت المسيحي للتعبير عن المهمة الخلاصية للسيد المسيح. لكن كايروس دخلت عالم السياسة في عام1985, عندما أصدر المسيحيون السود في جنوب إفريقيا نداء شهيرا إلي المؤسسات الدينية والكنائس المسيحية في العالم, يدعون فيه إلي التوقف عن دعم النظام العنصري في جنوب إفريقيا, ورفع الغطاء الأخلاقي عنه, وقد كان النداء قويا وجليا, وأسهم مساهمة كبيرة في تفكيك النظام العنصري وهزيمته. وفي الأشهر الأربعة الأخيرة عادت كلمة كايروس للظهور في عالم السياسة من جديد, خاصة في الأوساط المسيحية, هذه المرة كان كايروس فلسطيني, فتحت عنوان وقفة حق أصدر مجموعة من الشخصيات الفلسطينية المسيحية, اللاهوتية والعلمانية, وثيقة هي نداء إلي الضمير المسيحي العالمي, لتنبه إلي أنه حان الوقت لاتخاذ الموقف المناسب, ليس فقط من أقسي وآخر احتلال علي وجه الأرض, الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية, ولكن أيضا من داعمي هذا الاحتلال في الأوساط الدينية المسيحية. والوثيقة التي صدرت في ديسمبر من العام الماضي أحدثت اختراقا حقيقيا في العالم بعد أن تبناها مجلس الكنائس العالمي, واحتفت بها شخصيات مسيحية علي مستوي عال من النزاهة الأخلاقية مثل الأسقف الجنوب إفريقي ديزموند توتو الحاصل علي جائزة نوبل للسلام. وبالرغم من النجاح الذي تحققه الوثيقة فلاشك أنها تتحرك في ظروف أصعب كثيرا من تلك التي واجهت كايروس الإفريقية, فمن ناحية فإن مصدري الوثيقة هم من الأقلية العددية في وطنهم, وهم أيضا أقلية مذهبية في العالم المسيحي, والأصعب من ناحية أخري أنه علي مدي السنين والعقود الماضية استطاعت الحركة الصهيونية أن تحول الصراع الدائر من صراع حول الحقوق القانونية لأصحاب الأرض إلي صراع حول الحقوق الدينية لأصحاب الأساطير, وحشدت في صراعها هذا جزءا لا يستهان به من المسيحيين الغربيين الذين يعتقدون أن أحداث الشرق الأوسط هي إرادة إلهية تشكل جزءا من سيناريو يوم القيامة المسيحي. والوثيقة تبدأ بسرد واقع المعاناة الفلسطينية كما يعيشه الفلسطينيون علي مدار الساعة, بدءا من مذلة المعابر, وانتهاء إلي إهدار الحقوق الإنسانية برمتها, مرورا بالأسري واللاجئين, وتفريغ القدس من سكانها الفلسطينيين, مسيحيين ومسلمين, فمدينة المصالحة أصبحت مدينة التفرقة والإقصاء, ومن ثم سببا للاقتتال بدل السلام. ثم تحدد الوثيقة بوضوح الحقوق التاريخية لأصحاب الأرض, ف وجودنا, نحن الفلسطينيين, مسيحيين ومسلمين, علي هذه الأرض ليس طارئا, بل له جذور متأصلة ومرتبطة بتاريخ وجغرافية هذه الأرض, مثل ارتباط أي شعب بأرضه التي يوجد فيها اليوم, كما أنها لا تتحرج في تحديد المسئوليات قد وقع في حقنا ظلم لما هجرنا. أراد الغرب أن يعوض عما اقترف هو في حق اليهود في بلاد أوروبا, فقام بالتعويض علي حسابنا وفي أرضنا, حاول تصحيح الظلم فنتج عنه ظلم جديد. ثم تأتي أهم فقرات الوثيقة من وجهة نظري, تلك التي تسطر عريضة الاتهام ليس فقط للاحتلال وإنما للدعم الديني الذي يحصل عليه من دعاة التدين من المسيحيين, يقول كاتبو الوثيقة: نعلن نحن الفلسطينيين المسيحيين في هذه الوثيقة التاريخية أن الاحتلال العسكري لأرضنا هو خطيئة ضد الله والإنسان, وأن اللاهوت الذي يبرر هذا الاحتلال هو لاهوت تحريفي وبعيد جدا عن التعاليم المسيحية, حيث إن اللاهوت المسيحي الحق هو لاهوت محبة وتضامن مع المظلوم, ودعوة إلي إحقاق العدل والمساواة بين الشعوب. وبينما تطالب الوثيقة المجتمع الدولي بوقفة حق تجاه ما يواجهه الشعب الفلسطيني من ظلم وتشريد ومعاناة وتمييز عنصري واضح منذ أكثر من ستة عقود, فإنها تطالب المسيحيين في العالم بالوقوف ضد الظلم والتمييز العنصري, وتحضهم علي العمل من أجل السلام العادل في المنطقة, وتدعوهم إلي إعادة النظر في أي لاهوت يبرر الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني, ويبرر قتله وطرده من وطنه وسرقة أرضه. وقفة حق وثيقة تاريخية بكل المقاييس, أظنها جاءت في لحظة مناسبة وكاشفة, ليس فقط للبعض المتواطئ من مسيحيي الغرب, ولكن أيضا للبعض المتكاسل من مسيحيي الشرق.