البحث في معرفة النفس يمثل قيمة الانسان الحقيقية حيث تمثل ومضات النفس ذلك النور الذي يبعث في الجسد الانساني الدفء والشوق إلي ارتشاف رحيق الوعي والمعرفة التي تنقل الانسان من مرحلة الوهن والنقص إلي مرحلة العلم والفهم, وتوظيف القيم وتشغيل الارادة التي تجعل الانسان في صورة معقولة وطيبة ومرموقة حيث يشعر بالاستقرار والاطمئنان اعتمادا علي هذه المعرفة العميقة. هذه النفس ينبغي علي الانسان أن يعرفها, ليكتشف عن طريق معرفته ماهيتها ويرقي علي ضوء هذه المعرفة إلي أن يستشف جوهر هذه الومضة المشرقة التي وهبنا الله سبحانه وتعالي إياها, فهي التي تدلنا علي الطريق القويم الذي يوصلنا إلي معرفة الخالق المبدع موجد الموجدات العلوية والسفلية لصالح هذا الانسان وتحقيقا لمنفعته وسعادته. والنفس بوصفها تمثل هذا القبس الرباني, مازال الانسان يبحث وينقب عنها يحاول أن يعرف خفاياها وأسرارها, هي لغز الألغاز سرها في داخلها وداخلها من ذاتها, وذاتها من جوهرها, وجوهرها من نفسها.... هذه النفس تمثل خير ما فينا فهي بمعني ما من المعاني تمثل الروح والعقل والخيال وهي العين والأذن واللسان, هي الحس واللمس والذوق, هي القلب الذي يدور عليه محور حياتنا... ترانا ولا نراها وتسبح في غلاف يطوقنا ظاهره مادي وداخله سر الوجود... ننقاد إليها طوعا أو كرها, فنعيش معها, إما عن طريق الغوص فيما وراء الماديات عندما تكون النفس صافية واما غورا في الأعماق المادية عندما تلهينا عن فهمنا ومعناها مطالب الجسد المادية فينا, فتضغط علينا بادرانها فتطمس أنوار المعرفة الحقة. هذه النفس المقدرة من القادر بقدرته والتي دونت منذ الأزل علي لوحة القدر حزاؤها ومسيرتها وحسابها وعذابها وصوابها وعقابا ومبدؤها وميعادها يناديها ربها فإن تحلق في سموه ترتفع إلي الملكوت الأعلي فتعود إليه سامعة نداء الحق سبحانه وتعالي: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلي ربك راضية مرضية والبحث عن الراحة النفسية تنازعته مجموعة من الاتجاهات الفكرية ولعل اختيارنا لهذه الاتجاهات يتمشي مع وجهة نظرنا حول طبيعة سلوك الانسان والتي تري ان الانسان عليه مسئولية من أفعاله وان ليس للانسان إلا ما سعي. ومن هذا المنطلق نتناول بعض الاتجاهات لنوضح كيف كان تصور هذه الاتجاهات للقيمة الوظيفية للسلوك الانساني أو بالاحري ما كان يسعي في الاتجاهات الفلسفية( الاطار الأخلاقي المنظم للسلوك الانساني) والذي في ضوئه يتفاعل الانسان ويتعايش ويحقق التوافق النفسي أو يقع نهبا للصراع النفسي إذ ابتعد عن هذا الاطار وجانبه الصواب الأخلاقي. أولا: الاتجاه الطبيعي: يحدد هذا الاتجاه مفهوم التوافق النفسي علي أساس ما يستشعره الفرد من خبرات تأتيه باللذة أو بالألم, فاللذة مرغوبة بالطبيعة ويهدف الانسان إلي اشباعها, وكذلك أيضا الألم مكروه بالطبيعة وكل مكروه مؤلم, وكل لذيذ خير, وكل مؤلم شر!! ومن هنا يرسي هذا الاتجاه قواعده علي أساس: ان الشعور بالراحة النفسية أو ما نطلق عليه الصحة النفسية تتجلي في كل شيء ينزع الانسان نحوه ويميل إليه ويرغب فيه بالطبيعة ويشتهيه وهذا الميل يجعل الانسان يحدد ما يوافقه وما لا يوافقه, وبطبيعة الحال ما وافق الانسان خير, وما لا يتفق مع طبيعته هو شر. وهنا نجد أن هذا الاتجاه يهدم قيمة الانسان الحقيقية تلك التي تظهر في اختياره الواعي الحر, حيث صار الانسان عبدا لشهواته, وخاضعا لمطالبه الحسية المادية, وهذا التصور معيب للانسان ويفقده انسانيته. ثانيا: الاتجاه الذي يؤكد الطبيعة النفسية الفاعلة: يري هذا الاتجاه ان الراحة النفسية لا تأتي عن طريق مجموعة من الصفات تخلع علي الانسان, بل هي نابعة من الفاعلية النفسية سواء أكانت هذه الفاعلية اهتماما أم رغبة أم ميلا أم تعاطفا أم تحسينا أم تقبيحا. ومن هذا المنطلق تصبح الراحة النفسية مسألة ذاتية فردية تلعب فيها الارادة دورا كبيرا وأساسيا, فكل مايؤلم رغبات الانسان النفسية الارادية يعتبر خيرا بالنسبة الي صاحب هذه الارادة أو تلك, لأن تأثير الاجواء المحيطة بنا سواء كانت محسوسات أو أفرادا أو ظروفا أو ملابسات...هذا التأثير سواء كان بالمواءمة أو بالمنافاة يدل علي وجود علاقة بين طبيعة الأشياء وطبيعة نفسيتنا. ويلاحظ أن هذه العلاقة من الممكن أن تكون موضوعية من ناحية التأثير إلا أنها غالبا, تكون ذاتية من ناحية التأثير, ذلك أن الناس يختلفون في العوامل الذاتية, والواقع إن الانسان لايقوي علي أن يعيش متمركزا حول ذاته بل لابد له من أن يخرج من قوقعته لكي يتقبل كل مايأتي به الواقع من أحداث ويصبح الفعل والتفاعل والأداء المستمر والانتاج المتدفق من قبل سلوك الانسان هو عبارة عن نحت الشخصية وإعلان عن إبعادها أمام الواقع وأمام الأخرين أفراد المجتمع الذي يعيش بين جوانبه. ثالثا: الاتجاه الذي يرتهن الي الواقع: يحدد هذا الاتجاه الراحة النفسية للفرد علي أساس أنها مجموعة من الصفات المستقلة عن الطبيعة وعن الذوات الفاعلة, فهي تقع خلف الحوادث الطبيعية وراء الذات الفاعلة, وهي في نفس الوقت علي الذوات الفاعلة أي أنها ليست نسبية بل ان الراحة النفسية وفق هذا الاتجاه لها وجود مطلق كأي وجود آخر ولها قوانين مستقلة بنفسها كقوانين الطبيعة لاتتغير ولاتتبدل. وبطبيعة الحال فاعتمادا علي هذا الاتجاه فان الصحة النفسية لايخلقها الانسان بعقله أو بارادته وانما يجدها موجودة في الموجودات في عالم الواقع في شكل سلوكيات وعليه أن يلتقط دلالاتها ثم يربط بين هذه الدلالات ليجمع من خلالها مايسمي بصفات الراحة النفسية رابعا: الاتجاه الذي يشرك الذات الفاعلة مع الواقع الراهن ويتطلع الي المثل الأعلي: يري هذا الاتجاه الراحة النفسية علي أساس أنها نظام للعمل وأن هذا الاطار( او النظام) لايتحقق الا بوجود ذات فاعلة لها موضوعها الذي تعمل فيه وفق مثل أعلي تلاحظه وتتوخاه أثناء العمل وعن طريق تفاعل واشتراك العوامل الثلاثة الذي تجعله مجذوبا ومشدودا الي الواقع, يتفاعل بالفكر والعقل, ويحكم تصرفاته المثل الأعلي, جدير بالذكر أن تحديد الراحة النفسية بصفة عامة من خلال عرض بعض الاتجاهات النفسية المختلفة يجعلنا نحدد وجهة نظرنا حول الاتجاه الذي نراه ملائما... حيث ان الراحة النفسية من وجهة نظرنا في أساسها هي قيمة الشخص من خلال أفعاله وسلوكه وتصرفاته, وليست القيمة هنا هي تلك التي تأتي عن طريق الاشياء, أو الأفكار التي قد تظهر في شكل بعض الآراء التي تبتعد بالانسان عن القيمة الدينية, بل هي تدفع دائما الي الخير, والخير هو أن يأتي الانسان بسلوك وتصرفات ابتغاء مرضاة الله. ولعل ذلك مايقودنا الي حقيقة مهة مؤداها: ان الانسان اذا أراد لنفسه أن يكون صحيحا نفسيا فان عليه أن يستمد راحته النفسية وقيمته من ارادة الله فالانسان عندنا يريد من سلوكه ما أراد الله منه أن يريد فانه تكون قد اتحدت الارادتان أو الغايتان غاية الانسان, وغاية الله ولقد ارد الله للانسان الخير, ومن ينشد الخير يصل الي التوافق مع ذاته وينعكس هذا التوافق في تعامله مع الآخرين من بني البشر, فغاية الله تتجلي من خلال مايتم من أعمال من قبل الانسان, بشرط ان تكون هذه الاعمال ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالي سلوكا وتصرفا وفعلا وفكرا لكي يحاول الانسان أن يحقق راحته النفسية ويحقق أيضا تلك الغاية السامية المنشودة التي ارادها الله منه.