كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية صاحبة المبادرة والمتحمس الأكبر لقيام قضاء دولي جنائي مقنن, حيث قدمت إلي الجمعية العامة بتاريخ1946/11/15 المشروع الذي أعده القاضي فرانسيس بيدل العضو الأصيل في محاكم نورمبرج, وينص هذا المشروع علي ضرورة تبني الجمعية العامة نظام ومباديء نورمبرج ووضع قانون عقوبات دولي شامل ودائم يحدد الجرائم التي تقع ضد السلام وأمن البشرية ويحدد عقوبتها. وبادرت الجمعية العامة إلي إنشاء لجنة القانون الدولي سنة1947 وكلفتها تقنين مباديء نورمبرج ودرس إمكانية قيام محكمة جنائية دولية دائمة, وبهذا التكليف بدأت المسيرة الرسمية برعاية كاملة من الأممالمتحدة, وبمباركة عدد كبير من الأمريكيين في مقدمتهم الرئيس السابق جيمي كارتر. ويقول المؤلف عصام اسماعيل نعمة في دراسته حول( واشنطن والقضاء الجنائي الدولي) انه عندما بدأت اللجان التي عينتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في وضع المشروعات الأولية للنظام الجنائي الدولي, أدركت الولاياتالمتحدة أنها لن تستطيع التحكم في قرارات المحكمة القضائية إذا ما أرادت إدانة أي طرف كما انها لا تستطيع استعمال امتيازات النقض( الفيتو) أمام هذه المحكمة مما سيجعلها علي قدم المساواة مع غيرها من الدول وهو ما لاتقبله مطلقا. هنا بدأت رحلة معارضة واشنطن لهذا النظام القضائي الجديد, وكان نواب الكونجرس ومسئولو وزارة الدفاع أبرز المعارضين, وخلال الحرب الباردة قامت الولاياتالمتحدة بدور رئيسي في تعطيل مشروعات استكمال المحكمة أمام الجمعية العامة. وظلت المعارضة الأمريكية قائمة, إلي أن عقد في مدينة روما بين1998/6/15 و1998/8/17 مؤتمر الأممالمتحدة للدبلوماسيين المفوضين بإنشاء محكمة جنائية دولية, وانتهي المؤتمر بإقرار النظام الأساسي للمحكمة وأطلق عليه نظام روما الذي حاز علي موافقة120 دولة وامتناع21 دولة عن التصويت ومعارضة7 دول فقط. وفي هذا المؤتمر صوتت الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل علنا ضد هذا النظام رغم أن التصويت كان سريا. ويتلخص الاعتراض الأمريكي في الكلمة التي ألقاها ممثلها في المؤتمر والتي جاء فيها: إن الولاياتالمتحدةالأمريكية تري أن جرائم الحرب كما تضمنتها المادة الثامنة من نظام روما تتألف من لائحة طويلة من الأعمال, وحيث إن واشنطن تشارك أو تسهم مع حكومات مختلفة في تحالفات عسكرية مثل حلف الناتو, وكذلك مع قوات الأممالمتحدة وأيضا مع قوات متعددة الجنسيات في عمليات حفظ السلام الدولي, لذا لا يمكن تصور الجنود الأمريكيين المنتشرين بعيدا عن وطنهم الأم معرضين لضغوط ولإجراءات تلاحقهم سياسيا وقضائيا!. وبتاريخ2000/1/2 قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس, أمام مجلس الأمن, إن المحكمة الجنائية الدولية المقترحة لا تؤمن الحماية الكاملة للجنود الأمريكيين من المقاضاة, وأنه إذا كانت الأممالمتحدة تريد فرض سلطتها علي الشعب الأمريكي, فمعني ذلك أنها تبحث عن مجابهة ويمكن أن يؤدي ذلك إلي انسحاب الولاياتالمتحدةالأمريكية منها وهكذا بدت ذريعة حماية الأمريكيين المبرر الذي تمسكت به واشنطن من أجل الإحجام عن التوقيع علي معاهدة روما, ولكن لما رأت أن امتناعها لن يوقف إنشاء المحكمة التي نالت توقيع أكثر من139 دولة ومصادقة76 دولة وأنه تقرر دخولها حيز التنفيذ في الأول من يوليو للعام2002, عمدت إلي الانضمام إلي الاتفاقية بتاريخ2000/12/31 ظنا منها أن ذلك سيمكنها من الانخراط في مجموعة الدول الاطراف, وبالتالي يكون لها الفعالية التي ترجوها داخل الكيان الجديد. ولما يئست واشنطن من إلغاء فكرة إنشاء المحكمة, وعدم تحقيقها ما رمت إليه من توقيعها علي هذه الاتفاقية, لجأت إلي التنصل من التزاماتها, وبتاريخ2002/5/4 أعلنت الولاياتالمتحدةالأمريكية علي لسان وزير خارجيتها كولن باول عن عزمها عدم المصادقة علي اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية, معللة ذلك بأن تصديقها علي المعاهدة سيمكن المحكمة من مراجعة الأحكام الصادرة عن المحاكم الأمريكية, كما أن هناك احتمالا بأن تثير فوضي لدي الولاياتالمتحدة وتعرض الجنود والمسئولين الأمريكيين في الخارج للمحاكمة. وأكثر من ذلك فقد تقدم أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي بمشروع قانون بفرض عقوبات علي الدول التي تصادق علي اتفاقية المحكمة الجنائية, ولم يكن الهدف من مناقشة هذا المشروع سوي إرهاب الدول وجعلها تحجم عن التوقيع علي الإتفاقية عسي أن يؤدي ذلك إلي فشلها. وبتاريخ2002/6/27 تقدمت واشنطن بمشروع قرار إلي مجلس الأمن يتعلق بمنح رعاياها حصانة وقائية دائمة وشاملة, فرد مجلس الأمن بتاريخ2002/6/28 طلبها بعد أن اتخذوا إثنا عشر عضوا من أعضاء مجلس الأمن الدولي, وعلي رأسهم بريطانيا وفرنسا وسائر دول الاتحاد الأوروبي موقفا متشددا من المطالب الأمريكية وصوتوا ضد منح الجنود الأمريكيين حصانة ضد المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية, لعدم ثبوت الحجة ان جنودها العاملين في هذه القوات قد تتم محاكمتهم ظلما أمام المحكمة. حصانة اجبارية وبعد صدور هذا القرار هددت الولاياتالمتحدة مجلس الأمن انه إذا لم يتم منحها هذه الحصانة فإنها سوف تعيد التفكير في مشاركتها في جميع قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جميع دول العالم. وعمدت إلي استخدام حق النقض بتاريخ2002/6/30 ضد التجديد لقوات حفظ السلام في البوسنة, ونتيجة إصرار واشنطن علي مواصلة تجاهل النداءات الدولية المكثفة, وتهديديها بسحب بعثاتها التي تعمل في مجال حفظ السلام واحدة تلو الأخري, مالم يصدر المجلس قرارا يحصن جنودها العاملين في قوات حفظ السلام وغيرهم من المسئولين الأمريكيين في الخارج من الملاحقة أمام المحكمة الجنائية الدولية, لم يكن أمام مجلس الأمن سوي الرضوخ للموقف الأمريكي حيث وافق بالإجماع بتاريخ2002/7/12 علي إعفاء الامريكيين لمدة عام, من محاكمتهم أمام أول محكمة جنائية دولية دائمة بموجب القرار رقم1422 والذي صدر بأغلبية15 صوتا. المثير أن أحد أعضاء مجلس الأمن صرح لصحيفة لوموند الفرنسية أنه في عالم مثالي لا يمكن أبدا أن نصوت علي قرار يخالف اتفاقية دولية, ولكن نحن في عالم واقعي حيث تصنع الولاياتالمتحدةالأمريكية القانون, ونحن ليس علينا سوي السمع والطاعة. كما صرح ممثل كندا في مجلس الأمن, بأن هذا المجلس لايملك سلطة تعديل اتفاقية دولية ولكن ايضا وبمرارة يخيب أملنا بالقانون الأمريكي الذي ظل منذ سنوات طويلة يمارس حربا ضد المحكمة الجنائية الدولية. أما الموقف الثاني فيمثله المبعوث الفرنسي الذي أشار إلي أنه إذا انتقد كل الدبلوماسيين ونشطاء حقوق الإنسان القرار1422, إلا أن أحدا لايستطيع المنازعة في مشروعيته التي يستمدها من المادة16 من نظام روما. ويبدو أن الموقف الفرنسي تعبير عن وجهة نظر سياسية أكثر منها قانونية, ذلك أن هذا القرار لايتلاءم مع قواعد المشروعية الدولية من جميع وجوهها. مجلس الأمن وعلي الفور تقدمت الولاياتالمتحدة بإقتراح إنشاء المحكمة عن طريق مجلس الأمن بتأييد من بريطانيا وروسيا الإتحادية والصين, ويتضمن الإقتراح إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة كجهاز تابع لمجلس الأمن وتمارس اختصاصها القضائي في المجتمع الدولي بناء علي قرارات تصدر من مجلس الأمن بإحالة الجرائم إليها. وأهم الحجج المقدمة لدعم هذا الإقتراح تتمثل في أن مجلس الأمن صاحب الإختصاص الأصيل لحفظ السلم والأمن الدوليين وله الدراية والقدرة علي محاكمة ومعاقبة المسئولين عن تهديد هذا السلم والأمن, وقد اثبت فعاليته في المحاكم التي أنشاها سواء في رواندا ويوجوسلافيا السابقة وقبلها محكمة نورمبرج وقد عارض غالبية ممثلي الدول المشاركة في المؤتمرات الدولية التحضيرية, إنشاء المحكمة عبر مجلس الأمن متصرفا بموجب الفصل السابع من الميثاق, وتبنوا فكرة إنشاء المحكمة بموجب معاهدة دولية, معللين موقفها بضرورة المحافظة علي استقلالية المحكمة تجاه مجلس الأمن, والإبقاء علي موضوعيتها وحيادها, وإبعادها قدر الإمكان عن السياسة الإنتقائية, أو عن الوقوع أسيرة النزاعات بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. واستنادا الي هذه التبريرات نستطيع تبين مخالفة القرار1422 للتوجه العام للدول المشاركة في إعداد نظام روما, بل ويشكل أيضا إنقلابا عليها عبر إعادة هيمنة مجلس الأمن علي المحكمة بصورة مخالفة لأحكام النظام. نظام روما جاء في ديباجة نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية, أنها وجدت لتكون ذات اختصاص علي الجرائم الأشد خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره, وجاء في مواد الميثاق أن هذه الجرائم الأشد خطورة هي جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان, وبسبب طبيعة هذه الجرائم التي تكون في الغالب عمل دول ومنظمات, كان المبدأ الأساسي لهذه المحكمة أنه لايعتد بالحصانات والإمتيازات التي قد يتمتع بها مرتكبو هذا الجرائم بموجب القوانين الداخلية أو الدولية, وهذا مانصت عليه المادة27 من نظام روما: يطبق هذا النظام علي جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية للشخص, سواء كان رئيسا لدولة أو حكومة أو عضوا في حكومة أو برلمان أو ممثلا أو منتخبا أو موظفا حكوميا, لاتعفيه بأي حال من الأحوال من المسئولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي كما أنها لاتشكل في حد ذاتها سببا لتخفيف العقوبة, ولاتحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص, سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي دون ممارسة المحكمة اختصاصها علي هذا الشخص. واستنادا لهذه المادة ولروح أهداف نظام روما لايكون للحصانة الممنوحة للأمريكيين من الخضوع للمحكمة أي مفعول تجاه المحكمة, خاصة وأن المادة120 لاتجيز إبداء التحفظات علي هذا النظام الأساسي مما يجعل تحفظ مجلس الأمن كأن لم يكن, وباطلا بطلانا مطلقا لمخالفته قاعدة جوهرية من قواعد القانون العام الدولي استقلالية المحكمة أقر نظام روما في مقدمته استقلالية المحكمة حفاظا علي الشفافية والحيادية والمساواة لتحقيق العدالة الدولية, ولاتتعارض هذه الإستقلالية مع وجود روابط مع بقية أجهزة الأممالمتحدة التي تمليها ضرورات دولية محكومة بمبدأ التكامل فيما بينها, ومن أجل المحافظة علي هذه المباديء نصت المادة الثانية من نظام روما علي أن تنظيم العلاقة بين المحكمة والأممالمتحدة يتم بموجب اتفاق تعتمده جمعية الدول الأطراف ويبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة نيابة عنها. مع الإشارة الي أن هناك شبه إجماع دولي, علي رفض منح مجلس الأمن أي امتيازات علي المحكمة الجنائية الدولية, كما أن هناك شبه إجماع لدي أعضاء اللجان القانونية التي ساهمت في التحضير لنظام روما, علي إبعاد مجلس الأمن عن المحكمة مبررين ذلك بالحفاظ علي استقلالية المحكمة وعلي المساواة بين الدول الأطراف والمحافظة علي استقلالية المحكمة باعتبارها جهازا قضائيا من تدخل مجلس الأمن توجب أن يكون دور مجلس الأمن في تحريك الدعوي في أضيق الحدود وأن يقتصر علي إمكانية الإحالة الي المحكمة التي لها أن تقرر بعد ذلك تحريك الدعوي من عدمه بشأن تلك الإحالات. وأشار المؤلف الي ان مجلس الأمن يعمد في حالات كثيرة تجاوز حدود اختصاصه, سواء بصورة سلبية بعدم تدخله في مواضيع يتوجب عليه التدخل فيها, أو بصورة إيجابية عبر تدخله في مجالات تخرج عن اختصاصه. ويشير المؤلف الي ان إقدام مجلس الأمن علي منح الرعايا الأمريكيين حصانة لمدة عام من الخضوع لهذه المحكمة, فيه تعديل لنظام روما التي لاتجيز مثل هذا الإعفاء, كما يثير الخوف من أن تتكرر المحاولة ويمنح مجلس الأمن العديد من الدول هذه الحصانة مما يعني إسقاط نظام المحكمة الجنائية الدولية, وهو الهدف الذي تسعي الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفاؤها جاهدة في سبيل تحقيقه.