وقفت أتأمل( جرنيكا) رائعة بيكاسو التي تجسد بانفعال ساخط صادق وبلا ألوان أزمة إنسان العصر بين الحزن والحرب والموت. اللوحة الممتدة علي الجدار بارتفاع يجاوز سبعة أمتار وعرض يزيد علي ثلاثة أمتار,تجسد حادثة قصف القرية التعيسة بأطنان من قنابل النازية, وتصور ساحة حرب في وسطها حصان جريح يرفع رأسه في ذعر واضح, فوق رأسه شمس تبدو وكأنها عين بشرية, استبدلت حدقتها بصورة لمبة كهربائية, وعند حوافر الحصان محارب سقط وفي يده سيف مكسور, ويده الأخري أصابعها متنافرة متوترة وكأنها تصرخ, والي اليسار ثور أبلة ينظر في الفراغ ولعله يرمز للقوي الغاشمة والظلام الذي تنشره, وعليك تفسير باقي الرموز. هناك امرأة تحمل طفلها القتيل في يدها وترفع رأسها في ضراعة يائسة الي السماء, والي اليمين ثلاث نساء واحدة تولول وقد أمسكت النيران بملابسها, وأخري تفر مذهولة, أما الثالثة فلايوجد إلا رأسها وذراعها التي امتدت تحمل لمبة غازية تمثل الضمير البشري الذي يلقي ضوءا علي هذه المأساة ويشجبها. لقد جسدت الأعمال الفنية التشكيلية الفترات الحاسمة في تاريخ الشعوب, فكما وثق بيكاسو بريشته الفظائع والآلام وبربرية الغزاة في تكوينات دامغة لتحفظها الذاكرة البشرية النساية, رسم قبله أوجين دولاكروا لوحته الحرية تقود الشعب ليجسد ثورة يوليو1830 م,كما رسم فرانشيسكو جويا لوحته الشهيرة الإعدام أو أحداث الثالث من مايو1808 م,وقبلهم جميعا سجل المصري القديم علي جدران المعابد أنشودة قادش ليوثق غزوات الفراعين. ورسم المصري الحديث ورسامو الجرافيتي لوحاتهم علي الجدران المجاورة لميدان التحرير, فوثقوا بألوانهم وإبداعاتهم وقائع الانقضاض الغادر علي ثورة عظيمة قام بها المصريون في يناير من عام2011 م( هل تذكرون). تشاهد وجها مركبا, نصفه لرئيس الجمهورية السابق والنصف الثاني لرئيس المجلس العسكري السابق مكتوبا تحت الوجه المركب اللي كلف ما ماتش فتذكرت لحظة التنحي والتكليف, وتساءلت لماذا استخف الأول بقومه فخلعوه, ولماذا أهدر الثاني فرصة واتته( ومجلسه) ليقبع في قلب التاريخ كسوار من ذهب, تطالع رسما لدبابة تدوس علي كلمة الحرية المكتوبة باللون الأحمر فتحطم الحروف وتقطر منها الدماء, وتتساءل لماذا ضاع هتاف إيد واحدة تتأمل رسما للجنود وهم يسحلون فتاة ويرفع أحدهم حذاءه ليركل جسدها العاري فتدرك لماذا ضاع هتاف الوحدة وتحول إلي يسقط يسقط. تقرأ كلمتين مكتوبتين بطريقة فنية وكأنهما من أسلاك شائكة الفترة الانتقامية فتتعجب لم الانتقام من شباب دفع روحه ونور عيونه ليحدث التغيير في بلادنا الي الأفضل. علي الجانب تجد صورة كتب تحتها خائن الأمانة فتتذكر النداء أي ثقوا بنا وسنحمل الأمانة! تري صورة لشاب ثائر يشير للاخرين لينضموا اليه, وتري الي جانبها رسوما لصور الشهداء ولهم أجنحة ليصعدوا بها الي السماء( هل تذكرون). يقال أن أحد ضباط البوليس السري النازي الجستابو زار مرسم بيكاسو خلال الاحتلال النازي لباريس أثناء الحرب, وحين وقعت عيناه علي صورة الجرنيكا بادر بيكاسو بالسؤال: إذا أنت من صنع هذه اللوحة؟ فأجابه بيكاسو: بل أنتم الذين صنعتموها. وتتساءل من حقا الذي صنع تلك الصور المرسومة علي الحيطان في محمد محمود. في عام1981 م استقبلت أسبانيا لوحة الجرنيكا في مطار مدريد استقبالا ملكيا مهيبا, وحيتها طلقات المدافع,وفرش علي طريقهاالبساط الأحمر, وتم نقلها الي متحف البرادو الشهير في وسط مدريد. هكذا احتفلت الأمة بعودة الوعي والذاكرة متمثلة في اللوحة التي رسمت في1937 م حيث أوصي بيكاسو بألا تعود اللوحة إلي أسبانيا إلا بعد انتهاء حكم الجنرال فرانكو( المتحالف مع النازية). هذه أمة تحافظ علي ذاكرتها وتحترم تاريخها. وفي بلادنا يحاول ذيول النظام الساقط أن يطمسوا ذاكرة الوطن,فأطلقوا علينا أجهزة التشويه المعنوية, إلي جانب الجمال والبغال والبلطجية والشبيحة والقناصة( هل تذكرون), وحاولوا يائسين تزوير التاريخ وإسكات صوت الحق, وحرق الأفلام وقصف الأقلام وتكسير آلات التسجيل والتصوير وتحطيم الاسطوانات المدمجة, ولكن الشباب الصامد واجه الرصاص بالكلمة, وأطلق حملة كاذبون لدحض الافتراءات وتسجيل أحداث الثورة وتوثيقها بالصور المتحركة والرسوم النابضة في بلادنا, بدلا من الاحتفال بالرسومات الفنية والجرافيتي المجسدة لأحداث الثورة المتتالية وشهدائها فإن أعداء الثورة يقومون بإزالتها لعلنا ننسي, فأضافوا إلي جرائمهم واحدة جديدة. سخر الشباب من محاولات الجهل لطمس التراث وإهدار إبداعات الأمة, فكتبوا علي الحوائط الممسوحة: امسح كمان يانظام جبان, وتعيشوا وتدهنوا, ومبروك البوية الجديدة, وانتشرت الدعوات علي مواقع التواصل الاجتماعي, ليجتمع رسامو الجرافيتي لإعادة تزيين جدران محمد محمود بملامح الثورة وأحداثها وشهدائها. كتب شباب الثورة منددين بإزالة الرسومات, إمسح واحنا نرسم تاني. في يقيني,أن الأشقياء والأغبياء والجهلة والكذابين والمزورين لن يستطيعوا طمس ذاكرة الأمة.