في حياة كل منا شخصيات تهيئ لك الأقدار الالتقاء بها, أو التعامل معها حتي تصير العلاقة معها جزءا رئيسيا من علاقتك الإنسانية فلا تستطيع الاستغناء عن التواصل معها ومشاركتها كما تشاركك كل ما يجد لك في حياتك. وكثيرون هؤلاء الذين تفرق الأقدار التي جمعتنا في الأصل بيننا وبينهم لكن من هؤلاء الكثيرين من يمثل فراقهم عنك خسارة فادحة وعاجزا عن تعويضها وربما تتصور انتهاء الحياة بالنسبة لك بمجرد الفراق, إنهم من وجهة نظري قلة في هذا الزمن, بل هم عملة نادرة يستحيل الحصول عليها والتمسك بها لأنك لن تجدهم إلا في ندرة عزيزة المثال. من هذه القلة النادرة التي هيأت لي الأقدار لقاءها الأخ والزميل والصديق مراد عز العرب مدير عام تحرير الأهرام المسائي الذي شاءت الأقدار أن يفارقنا ويغادر حياتنا ليلقي ربه راضيا مرضيا في أفضل أيام نعيشها وكأن الأقدار شاءت لحكمة يعلمها الله أن يكون لقاء مراد بربه صائما, راضيا, قانعا, حامدا, شاكرا لربه أنعمه, مستسلما برضا لقضاء ربه وقدره. رحل العزيز مراد, ذلك النموذج الخلوق الصبور, الراضي, المتسامح, المخلص, المعين للجميع وقت حاجتهم, المتحمل مسئولية أي تقصير لأي زميل حتي ولو لم تكن له علاقة بما جري, فقد كان شعاره الذي يردده معي في جلساتنا الخاصة نحن نستطيع التحمل, أما هؤلاء الشباب فقد لا يستطيعون, وهذا قدرنا يا دكتور. رحل العزيز مراد الذي أفني حياته في سبيل مهنة أحبها بل عشقها منذ التحاقه في أول دفعة لكلية الإعلام جامعة القاهرة عام1971 حين كانت معهدا للإعلام ليمثل مراد ورفاقه كوكبة لرواد مهنة صاحبة الجلالة تتيه بهم كلية الإعلام إذ هم في كل مواقع الريادة والقيادة بمختلف المؤسسات الإعلامية والصحفية. رحل مراد عز العرب.. عفيف اللسان, جميل الخلق, نقي السريرة, نموذج عرفته منذ دخل علي صالة تحرير الأهرام بالدور الرابع ونحن مع الأستاذ مرسي عطا الله في الأعداد الأولي لإصدار الأهرام المسائي الذي صدر عدده الأول في17 يناير1991 وقتها كنت مكلفا بالمسئولية عن إعداد ومراجعة مواد العدد مع قلة من الزملاء وقع عليهم الاختيار لتنفيذ مهمة إصدار الأهرام المسائي. في تواضع حجم, ورقي إنساني عزيز المثال, بدأ مراد الوقور, الهادئ, يتعامل معي ويقدم ما يكتبه في الاقتصاد لأتولي معه مراجعته وعرضه علي الأستاذ مرسي عطا الله, لم يشعرني بأنه خريج الدفعة الأولي بكلية الإعلام1975 وأنا بعده بأربع سنوات1979 ومرت الأيام واكتشفنا أن ما بيننا أكبر من مجرد زمالة مهنة, وانتماء إلي كلية واحدة, بل صار كل منا موضع الثقة للآخر, يسر إليه بما يؤلمه وما يأمله حتي جوانب حياتنا الخاصة صارت بيني وبين الراحل العزيز كتابا مفتوحا نناقشها ونتشاور بشأنها وكثيرا ماكانت جلسة المكاشفة تنتهي بقوله( ريحتني والله يا دكتور الله يريح قلبك). رحل مراد عز العرب, وبرحيله افتقدت ومعي الكثيرون من أسرة الأهرام المسائي نموذجا خلوقا صبورا, ودودا, لا يعرف الإيذاء ولا يحمل في نفسه ضغينة لأحد. ظل لسنوات عديدة متحملا المسئولية كاملة عن الأهرام المسائي, ولم يفقد حماسه لحظة أن حرمته الظروف من أن يحصل علي حقه مهنيا ويأخذ موقفه اللائق به في قيادة إصدار أفني عمره فيه, ولما تغيرت الظروف كان السن والعمر قد مضي, ولكن تبقي أصالة معدن صانع القرار داخل ب الأهرام المسائي فما استغني عن مراد عز العرب بعد بلوغه السن, بل جعله في الموقع الذي يستحقه في ضوء المتغيرات الأخيرة, ولم يتردد صانع القرار الأهرام المسائي في أن يحفظ لمراد عز العرب مكانه ومكانته وقدره, وكل ذلك في راحلنا كان عظيما وغاليا. مراد.. لولا إيماني بالله العلي الأعلي.. لولا إيماني بأن ذلك قدر الله وقضاؤه ولا راد لقضائه لولا ذلك وغيره لسألتك وما كنت أتوقع منك جوابا لم غادرتنا وتركتني؟ لكنه أمر الله وإرادته ولا أملك إزاءها إلا قول ربنا( إنا لله وإنا إليه راجعون). وداعا أيها العزيز الغالي, وداعا لنقاء السريرة, وعفة اللسان, وطهارة اليد, وسلامة القصد, وداعا لنموذج الرضا, والثقة في أن ما عند الله خير وأبقي.. وليمنحك ربك رضاه في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. وليبارك الله في أهل بيتك وأولادك, وهنيئا لك بلقاء ربك راضيا مرضيا.. واللهم اجمعنا في مستقر رحمتك.