ثمة مفارقة اقتصادية هائلة يعانيها الاقتصاد العالمي هذه الأيام, فعلي الرغم من أن المشهد الاقتصادي الدولي مازال يعاني تداعيات واحدة من أشرس أزماته المالية في التاريخ الحديث. وعلي الرغم من أن هذا الاقتصاد يرزخ تحت تباطؤ يبدو حادا في معدلات النمو وسط احتمالات أن تشهد قوي اقتصادية كبري فيه انكماشا لافتا, برغم هذا كله وما قد يعنيه من تقلص الطلب العالمي إجمالا علي السلع والخدمات, فإن أسعار المواد الغذائية قد تشهد خلال مقبل الأيام موجة غلاء قياسية تعيد للأذهان تلك الموجة التي عصفت بشعوب العالم خلال عامي2007 و2008 عندما ارتفعت أسعار المواد الغذائية إلي مستويات لم يسبق لها مثيل, وعلي نحو تسبب في اضطرابات سياسية واجتماعية تواسعة النطاق.الحفاف في أمريكا وكما حدث في الأزمة المالية العالمية التي اندلعت شرارتها الكبري في عام2008, إذ كان مصدر هذه الشرارة الولاياتالمتحدة عندما انهار بنك ليمان برزرز الاستثماري, فإن مصدر الأزمة الجديدة أيضا سيكون علي الأرجح أمريكي الهوي والهوية, فالولاياتالمتحدة تعاني هذه الأيام من أسوأ موجة جفاف تعصف بها في ربع قرن, وهو الأمر الذي ينذر بصعوبة كبيرة في أسعار السلع الأولية بالأسواق العالمية, وقد سجلت أسعار الحبوب الأساسية فعلا مستويات مرتفعة كانت قد أدت في آخر مرة شهدتها الأسواق لأزمات غذائية حادة في شتي أجاء العالم حسبما يقول تحليل إخباري لوكالة رويترز. وقد وصل الأمر إلي حد قيام دول كثيرة تعتمد بشدة علي الاستيراد, بتقليص وارداتها في الوقت الحالي, والاعتماد بدلا من ذلك علي ما لديها من مستوي جيد من المخزونات الغذائية, وذلك علي أمل أن تدخل حبوب من مصادر أخري غير أمريكية الأسواق العالمية, ومن ثم تدفع الأسعار للانخفاض. لكن هذه الآمال قد تتبدد لو عادوا جميعا للجوء إلي السوق في الوقت نفسه. وليس من الغريب حسبما يقول تقرير رويترز أن ترتفع الأسعار بنحو40% في الأسابيع الثلاثة الماضية تقريبا, مع تضاؤل التوقعات الإنتاجية لمحاصيل الحبوب بسبب الجفاف الشديد, وسجل سعر فوق الصويا مستوي قياسي, كما تمضي أسعار القمح العالمية علي الدرب نفسه. إحساس زائف ونقلت رويترز عن شون ماكمبرديج المحلل لدي مؤسسة يجفريز باتشي المعنية بأسعار السلع الغذائية العالمية قوله: إن فرص الإنتاج بدت في السابق رائعة, وإنها ربما ولدت إحساسا زائفا بالأمن لدي هؤلاء المستوردين للحبوب, وإنه في تلك المرحلة كانت ثمة توقعات بهبوط أسعار الذرة مثلا دون خمسة دولارات للبوشل( أي لنحو كل خمسة وعشرين كيلوجراما) لو ظل الطقس مناسبا, لكن الذي حدث أن الأسعار قفزت بشدة. ويبلغ سعر الذرة حاليا في الأسواق العالمية أكثر من سبعة دولارات للبوشل الواحد( كما سبق أن ذكرنا فإن البوشل يعادل نحو خمسة وعشرين كيلوجراما), وذلك في العقود الآجلة المضمونة بمحصول العام الحالي, وهذه الأسعار تزداد بوتيرة سريعة. ويؤكد تجار في أسواق الحبوب الدولية أن المستهلكين في أوروبا وشمال إفريقيا والشرق الأوسط قلصوا مشترياتهم المعتادة متوقعين أن تتراجع الأسعار. ونقلت رويترز عن أحد هؤلاء التجار قوله: هذه بالنسبة لي قنبلة موقوتة. أنا عادة واحد من الذين يتوقعون هبوط الأسعار, لكنني لن أندهش لو بلغ سعر الذرة عشرة دولارات للبوشل. أوجه شبه وهناك أوجه شبه كبيرة بين الوضع الحالي وأزمات الغذاء التي شهدتها الأعوام القليلة الماضية بما في ذلك طقس قائظ, ومحاصيل متضائلة, وأسعار فلكية, ما علينا فقط في هذا الصدد سوي أن نضع موجة الجفاف ومحصول الذرة الأمريكي في العام الحالي مكان انهيار المحصول الروسي في عام2010 لنكتشف أوجه الشبه الهائلة بين هذين الحدثين. وتمتد وجه الشبه أيضا إلي وضع الاقتصاد الكلي, فقد شهد عام2008 وهي آخر مرة بلغت فيها الأسعار هذه المستويات الحالية تفجر أزمة مالية متفاقمة بانهيار بنك ليمان براذرز, والآن زعزعت أزمة الديون الأوروبية استقرار منطقة اليورو, وهناك مناطق أخري علي حافة الهاوية. كما أدت حالة عدم اليقين التي تسود الآن أسواق السلع العالمية إلي تقلبات في جميع تلك الأسواق هذه المرة, وذلك كما حدث بالضبط في المرة الماضية مع الحالة الروسية, لكن القاسم المشترك الأعظم في الحالتين المتمثل في ظروف العرض والطلب, كان هو القوة الدافعة في أحدث صعود لأسعار الحبوب, كما كانت الأحوال الجوية العامل الأساسي الوحيد ذي الحيثية في هذا الصدد. رسالة ثقة وتبدي هيئات شراء الحبوب الرسمية في أكبر الدول المستورد ة مثل مصر وإيران والصين والهند تفاؤلا حتي الآن, وهم متحدون في إيصال رسالة الثقة في مستويات المخزونات المحلية, وقدرتهم علي تفادي صعود الأسعار الحالي. فقد أعلنت مصر التي تعد أكبر مستورد للقمح في العالم, والتي تستورد أكثر من10 ملايين طن سنويا أن لديها مخزون استراتيجي يكفي تقريبا لأكثر من6 أشهر حتي شهر يناير المقبل. وفي آسيا تكون لدي الصين والهند مخزونات وفيرة من القمح, بفضل حصاد شبه قياسي في السنوات القليلة الماضية, وقالت مصادر في قطاع الذرة الأمريكي: إن الصين وكوريا الجنوبية حجزتا شحنات إضافية تحسبا لمشكلات في المعروض, وارتفاع الأسعار. وقد أعاد صعود الأسعار للأذهان ذكريات أزمة الغذاء في عامي2007 و2008 حينما أضافت منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة( الفاو)75 مليون شخص لتقديرها لمن يعانون جوعا مزمنا في العالم, وحددت تقديرات أخري الزيادة بما يصل إلي160 مليون شخص. وارتفع مؤشر مجلس الحبوب العالمي لأسعار الحبوب والبذور الزيتية قبل أيام لأعلي مستوياته منذ يوليو من عام.2008 وبالرغم من أن مخزونات الحبوب حاليا أعلي منها في2008 بنسبة25% وفقا لبيانات المجلس, فإن الشيطان يكمن في التفاصيل, إذ تمتلك الصين مخزونا كبيرا من القمح والذرة, ومن المستبعد أن تضخه في الأسواق العالمية. ويأتي ذلك بينما ارتفع استهلاك الحبوب بشك لمطرد في السنوات القليلة الماضية, وتوقع مجلس الحبوب العالمي في وقت سابق من هذا الشهر نمو الاستهلاك العالمي بما يقرب من2% خلال العاملين الحالي والمقبل, مدعما بارتفاع استهلاك اللحوم, خاصة في الدول النامية. إيران وسوريا ونقلت رويترز عن مصادر تجارية قولها: إن إيران في الوقت الذي تلتقط فيه أنفاسها من نوبة شراء مكثف في وقت سابق من العام الحالي خوفا من العقوبات, وتراقب محصولها المحلي, فهي تراجع الأسعار يوميا وعينها علي مشتريات أكبر من القمح. وقد دخلت طهران في مفاوضات بشأن صفقات قمح بملايين الأطنان من باكستان, لكن هذه المفاوضات وصلت إلي طريق مسدود ومن شأن انهيارها أن يزيد حدة احتياج طهران لشراء القمح. كما تعاني سوريا مشكلة مزمنة, إذ أن الأثر غير المباشر للعقوبات علي نظام الرئيس بشار الأسد جعل الدولة التي مزقتها الأزمة غير قادرة علي شراء كميات كبيرة بما يكفي لتلبية احتياجاتها من واردات الحبوب التي تبلغ نحو ثلاثة ملايين طن. وفشلت مرارا محاولات سوريا لتنفيذ صفقات مع ارتفاع الأسعار بشكل متزايد. ومن المرجح أن يؤدي ارتفاع أسعار الحبوب لضغط متزايد علي الحكومة السورية, فاحتياطي النقد الأجنبي هبط لمستوي قياسي جديد, ويتراجع بمعدل سريع مع تراجع التجارة, وقدرة البلاد علي جمع الضرائب. وتتوقع تايلاند أكبر بلد مصدر للدجاج المجمد في آسيا أن يؤدي ارتفاع أسعار الذرة وفول الصويا إلي تضخم أسعار المواد الغذائية مع ارتفاع تكلفة العلف الحيواني. العزوف عن الاستيراد وثمة من يقول إن العزوف عن الاستيراد لتجنب أثر ارتفاع الأسعار قد يبدو أمرا معقولا. ويحجم المغرب في هذا الصدد حاليا عن الشراء, لكنه سيحتاج لاستيراد أضخم كمية من الحبوب في ثلاثة عقود نتيجة ضعف المعصول المحلي, وهبط محصول الحبوب في هذه الدولة من8 ملايين طن في عام2011, إلي نحو5 ملايين طن فقط هذا العام. وقد تردد أن كوريا الجنوبية والفلبين وفيتنام أحجمت أيضا عن الشراء بسبب ارتفاع الأسعار, لكن التساؤل الجوهري الآن هو: إلي متي ستظل هذه الدول محجمة عن الشراء؟ فمن المرجح أن تبذل هذه الدول قصاري جهدها للصمود في وجه هذا الغلاء في أسعار الحبوب, انتظارا لمحصول الحبوب الجديد في سبتمبر وأكتوبر المقبلين من عدة مصادر, منها شرق أوروبا, حيث أصبحت دول البحر الأسود موردا رئيسيا للحبوب في الأسواق العالمية, وبأسعار رخيصة. لكن حتي هذه الدول تتعرض لضغوط هي الأخري, فقد أجبر الطقس الحار والجاف روسيا وأوكرانيا وكازاخستان علي تقليص توقعاتها لحاصلاتها الزراعية, وقد ينخفض المحصول الإجمالي للمنطقة بمقدار35 مليون طن علي الأقل مقارنة مع العام الماضي.