علي غير المعتاد, رحب المصريون هذه المرة بطريقة مختلفة بضيف مهم بوزن السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية التي جاءت لتنقل اعترافها بنقل السلطة إلي رئيس مدني وتتعهد بالدعم والمساندة. وهي المرة الأولي التي يخرج فيها المصريون في مظاهرات صاخبة رفعوا فيها الشعارات الحادة المناهضة للزيارة وللسياسة الامريكية الملتبسة تجاه مصر وتجاه الاملاءات التي جاءت بها وكأنها المندوب السامي في دولة من دول الموز. خرجت جموع غاضبة من المصريين في القاهرة والاسكندرية ليقولوا أن هناك الكثير الذي تغير في مصر, وأنهم لن يسمحوا بأن تتلاعب السياسة الأمريكية بأمننا القومي أو بديمقراطيتنا الناشئة, وأن سياسة أمريكا مكشوفة وتفتقد إلي المصداقية, ومن يتصور ان مثل هذه السياسة الفاقدة للمبادئ والمصداقية تحميه وتناصره فهو واهم وقليل الحيلة. ليست المظاهرات وحدها, فقد رفض مثقفون وسياسيون مصريون اللقاء مع الوزيرة الامريكية الذين دعوا باعتبارهم اقباطا ليناقشوا قضايا الأقلية المسيحية, وليسوا كمصريين مهمومين بهموم الوطن ككل, وهو رفض يصب في الإيمان بأن السياسة الامريكية تجاه مصر بعد ثورتها ليست نزيهة وفاقدة للمصداقية, وأنها تسعي إلي تقسيم مصر طائفيا وربما جغرافيا أيضا. ما حدث مع الوزيرة الأمريكية في جزء منه رسائل في غاية الأهمية للداخل أيضا, لعل أبرزها أن إستقواء أي فصيل سياسي بالدعم الأمريكي في مواجهة المؤسسات الشرعية والقضاء هو عار لن تمحوه مياه المحيطات ولا أنهار الدنيا كلها, وأن محاولة واشنطن أن تدفع إلي حكم مصري بعد الثورة يخضع لقوة سياسية بعينها ترتمي في أحضان واشنطن, وتجاهل باقي القوي السياسية والاجتماعية في مصر لن تمر مرور الكرام وسيكون ثمنها غاليا. مثل هذه الرسائل الشعبية تتكامل مع الرسائل الأخري شديدة الأهمية التي تضمنها خطاب المشير طنطاوي في حفل تسليم قيادة الجيش الثاني يوم الأحد الماضي. وفي اعتقادي أن هذا الخطاب الأكثر صراحة ووضوحا يعد في ذاته تنبيها للأمة كلها بما يعد لها من مؤامرات وخطط يشارك فيها بعض الداخل فاقدي الوطنية وكثير من الخارج لغرض تدمير الوطن وكسر شوكة قواته المسلحة وإغراقها في مواجهات مع الشعب المصري. وجزء من صراحة الخطاب وقيمته الكبيرة مرتبطة باللحظة الزمنية, والتي جاءت بعد لقاء الوزيرة الأمريكية مع المشير طنطاوي في مقر وزارة الدفاع حيث ناقشا العلاقات الاستراتيجية بين البلدين, وتطورات السياسة المصرية بعد انتخاب الرئيس محمد مرسي. وكأن الخطاب ورغم كونه موجها اساسا إلي جنود القوات المسلحة فقد وضع كل النقاط علي كل الحروف. وفي تصوري أن أكثر الدلالات أهمية في هذا الخطاب هي أن قيادة القوات المسلحة واعية تماما لكل الخطط العدوانية, وأنها مستعدة بالخطط المضادة التي تحمي البلاد والشعب والموارد من كل صنوف العدوان مهما شارك في تخطيطه وإعداده خونة في الداخل أو مخربون من الخارج. والتذكير ببعض ما جاء في هذا الخطاب قد يوضح الكثير من المعاني والدروس. فأولا تضمن الخطاب تأكيدا علي أن مصر للمصريين جميعا, للصعيد ولسيناء ولبحري وقبلي, وليست لفصيل بذاته, وتلك رسالة شديدة الوضوح لكل من تسول له نفسه أنه قادر علي اختطاف مصر بغير رجعة بأن يعيد التفكير في هكذا طموح غير مشروع. وهؤلاء الذين يتصورون أن الفرصة حانت لتغيير هوية البلاد ومؤسساتها والتغلغل في مفاصلها والانقضاض عليها ليس لهم مكان في مصر المستقبل مهما كانت قدراتهم التنظيمية ومواردهم المالية, فالشعب وقواته المسلحة لديهم الأعين المفتوحة والإرداة الصلبة لوأد أي محاولات مريضة لاحتكار السياسة والقرار. وثانيا أن طبيعة المعركة التي تخوضها مصر وتخوضها القوات المسلحة الآن ومنذ اليوم الأول لتولي سلطة إدارة البلاد في11 فبراير2011 هي طبيعة شرسة بكل المقاييس, فساحتها الوطن بكامله والأعداء غير محددين كما كان الحال في حرب أكتوبر73, ويمكن أن يكونوا في كل مكان ويتحركوا في أيةلحظة, مسلحين بتعليمات من الخارج وأموال من جهات عدة, مستهدفين إغراق الوطن في الفوضي والاقتتال والانقضاض علي تماسك الجيش المصري. غير أن القوات المسلحة بتاريخها وتراثها العظيم ومبادئها الوطنية استطاعت أن تواجه هذه المعركة بكل حكمة واقتدار وأن تعبر تلك المرحلة الحرجة بنجاح كبير, وسوف تظل علي النهج ذاته في المرحلة المقبلة. ثالثا, أن المبادئ التي تحكم عمل القوات المسلحة محددة وواضحة وهي: لا إراقة لدماء المصريين تحت أي ظرف, والالتزام بالقانون والدستور وأحكام المحاكم, والعمل لصالح الوطن ككل, والوفاء بالعهد, والتضحية بالنفس والعمل والجهد مهما كان شاقا وأخيرا تحمل الإيذاء النفسي والتعالي علي الشتائم البشعة التي لا تأتي إلا من الصغار والسفهاء. تلك المعاني لا تنفصل عن حالة الوطن الآن, وما يدعو إليه جناح متنفذ في داخل الجماعة يري أن خوض معركة فاصلة مع الجيش ومع القوي السياسية الاخري بل مع المؤسسات القضائية وأحكام المحاكم هو الأجدي وصولا إلي هيمنة كاملة. وهي دعوة خاسرة جملة وتفصيلا, فالتوازن السياسي بين انصار الاسلام السياسي وانصار الدولة المدنية متقارب في القوة وفي الحجم وفي التأثير, وبالتالي فليس هناك مجال لانتصار ساحق أو هيمنة مطلقة أو تسلط سياسي. وإن لم يفهم راغبو المواجهة أن محاولتهم مقضي عليهم بالفشل التام, فندعوهم إلي التمعن ثانية وثالثة فيما حواه خطاب المشير من رسائل ومعان, لعلها ترشد تفكيرهم وتنير بصيرتهم.