كان غارقا بين الملفات المتكومة أمامه علي المكتب في عدة رصات بلونها الاصفر الكالح في الحجرة والواسعة القابعه في الدور الثالث بالمبني العتيق بشارع طلعت حرب ادارة السجلات نادي علي عم محمود الفراش. واسرع كالمعتاد يقدم له ساندوتش الفول وكوب الشاي الساخن, تناول قضمه من الساندوتش وهو يقلب احد الدوسيهات يوشر عليه بالحفاظ في عفويه, كأنه يؤدي دورا حفظه عن ظهر قلب في مسرحية عبثيه امتد عرضها حوالي اربعين عاما انتهي من فطوره, فرد الجريده امامه وقرأ في عجاله العناوين الرئيسية ثم بعض المقالات القصيرة, وسرعان ما القاها في درج المكتب, دخل عليه الساعي يحمل بين يديه المكاتبات الواردة اخذا توقيعه علي دفتر الوارد ثم انصرف بعد ان سأله عن اخبار ابنه في الامتحانات فقال له الاستاذ محروس برتابة: الحمد لله.. كويس بدأ في تفحص الخطابات الواردة في اهتمام بالغ بعد أن ثبت نظارته الطبية المقعرة المعلقه بسلسلة فضية علي عينيه مد بصره نحو المكاتب الخاليه, الاستاذ مرقص والاستاذ حسنين حسنين كالعادة يتسكعان في باقي ادارات الوزارة تاركينه بمفرده يقوم بالعمل كله دون تذمر او شكوي توقفت يده فجأة وهو يكر الخطابات امامه مدققا في احدها.. سرت في بدنه رعشة خفيفة.. اخرج الخطاب وأخذ يقرأه بصوت مسموع: دارة شئون العاملين تخطركم ببلوغكم سن المعاش في الحادي عشر من فبراير رفع عينيه صوب نتيجة الحائط المعلقه امامه والتي تنبئ بتاريخ اليوم الحادي عشر من شهر ديسمبر لفه دوار خفيف..عاد بظهره الي الوراء مستندا علي الكرسي شعر في التو واللحظة بثقل السنين المنقضيه.. وتعب الرحلة يحل دائما عند النهاية..حان للعرض ان يتوقف كي يتغير الممثل والمخرج ويبقي الجمهور كما هو يرقب في تثاؤب ولا مبالاه دون أن يعبأ بمن جاء ومن رحل ينتظر بدء العرض من جديد بممثلين جدد ياخذون اوار البطولة وادوار الكومبارس لا احد يهتم. ستون عاما سيبلغهم بعد شهرين استعجب وتذكر ايامه الاولي في هذا المبني كأنها كانت بالأمس.. كيف مضت تلك السنون بهذه السرعة الخرافية؟.. ابتسم ابتسامة باهته والتفت نحو نافذة الحجرة القابعة وراء المكتب تبدي الشارع من خلف الزجاج يعج بالمارة يهرولون في شتي الاتجاهات راقب صبيه المدارس يحملون حقائبهم خلف ظهورهم يتبادلون النكات والقفشات يتزاحمون حول احد محلات المأكولات يتناولون الطعام في نهم وهم في حركه دائبة ممتلئة بالحيوية والنشاط وبعض الشباب والشابات ينتحون جانبا في حوار هامس دافئ تساءل في دهشه: كيف لم يلفت انتباهي هذه المشاهد من قبل؟! كأنه آله صماء تعمل في حياد باهر بلا توقف, بلا تلفت, بلا انتباه للزمن, شحب وجهة, وشعر باطرافه بارده وقال في نفسه: ماذا ساقول للأولاد في البيت. تبدت الحيرة في مقلتيه علي تساؤل أهم ماذا سأفعل في ايامي القادمة؟ هل الخريف نذير بأنه قد آن آوان الرحيل أن يكنس أوراق الشجر القديمة ليفسح طريقا جديدا لربيع أتي..مغترا بفتوته وعنفوانه.. يظن بانه الموسم الاخير في دوره الحياة ولا مواسم بعده. أفاق من شروده علي يد تربت علي كتفه, التفت فوجد الاستاذ راغب مدير الحسابات واقفا امامه رحب به ودعاه للجلوس قال له في اشفاق: اتعسنا الخبر رد بصوت جاهد ان يبدو طبيعيا: هذه سنه الحياة الزملاء يودون تكريمك لاداعي.. لماذا فاحباؤك كثيرون حسنا دعني افكر اخذ اذنا وانصرف مبكرا عن مواعيد العمل الرسمية, وقال في نفسه مش حروح في عربيه الشغل النهارده, فليتمشي في وسط البلد تسكع في الشوارع المحيطة بمبني الوزارة أخذ يشاهد المحلات والفترينات يتأمل المعروضات بعقل شارد رأي وجهه في احدي المرايا..هاله كم الشعر الابيض والتجاعيد تحفر ملامح جديدة في وجهه. اندهش كيف لم الاحظ ذلك من قبل تأمل حركة المارة العابرين من حوله في استغراب لاول مرة منذ ثلاثين عاما يشاهد شوارع وسط البلد في هذا البلد في هذا الوقت المبكر فقد اعتاد في مثل هذا الوقت أن يكون منكبا علي الدفاتر والمذكرات واجتماعات واجتماعات, وكلمات وكلمات..وهذا العالم العجيب أسفل قدميه ولا يراه!! ماهذا الخلق؟.. ماهذه الحياة التي تدب في الشوارع من حوله اشارات مرور, نساء فاتنات جميلات, بائعون متجولون, طوابير مرتادي الحفلات الصباحية بالسينما حياة حميمة زاخرة أين كنت طوال هذه السنين اصحوت فجاة بعد سبات شتوي طويل كذلك من أهل الكهف الذين استيقظوا فجأة ليروا عالما جديدا غير العالم الذي تركوه منذ عشرات السنين. نخبركم ببلوغكم السن القانونية للأحالة للمعاش استرجع في نفسه كلمات الخطاب وأخذ يضحك علي حدة وسذاجه اللهجة حتي استرعي انتباه المارد من حوله لمح مقهي مندسا بين العمارات العالية في مكان ضيق تهب عليه تيارات هواء باردة منعشة, وتظلله البنايات وتحجب عنه حرارة الشمس جلس علي احدي المناضد طلب كوبا من الشاي أخذ يتذكر آخر مرة جلس فيها علي مقهي آه منذ حوالي ما لايقل عن عشرين عاما حين اتاه صديق قديم من المنيا يزوره في المنزل تناولا الغداء ثم نزلا يجلسان علي مقهي قريب يلعبان الطاولة ويتسامران.. يرق في ذهنه كل اصدقائه القدامي, اصدقاء المدرسة في بلدته المنيا مسقط رأسه وكذلك زملاء الجامعة بالقاهرة, اتري اين هم الآن امواتا.. احياء؟! طالما تقابلوا في الماضي وتبادلوا التأكيدات بضرورة أن يلتقوا اسبوعيا او حتي شهريا ثم راح كل واحد في غيبوبته. مهاب حسين مصطفي