قالت لي صديقتي المعلمة الجليلة بنبرة حزن عميقة: تصوري أبنائي الطلبة أولادا وبنات.. يتبادلون أبشع الشتائم عبر صفحات الفيس بوك.. ويصفعون بعضهم بعضا بكل ما تقشعر له الأبدان.. وما يخدش الحياء! لمجرد الاختلاف في الآراء؟ وتقول لي: عرفت لماذا انجرفت مصر إلي طريق التواضع الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.. الذي يتبع حتما هذا التدهور الاخلاقي المقيت؟! وبما أني دقة قديمة أصابتني الدهشة.. كيف نتحول هكذا من روعة التماسك المصري المعتز بأصله العريق.. الفقير قبل الغني.. إلي الانحطاط في لغة الحوار والخطابة.. والتبلد في الفكر.. والجمود المشئوم في التمسك بالرأي ولو كان خطأ.. يؤدي أكيد إلي سكة الندامة؟؟ لقد تغولت القيم الرديئة في الرءوس.. لكن مازال عطر الحضارة يحوم حول كل مصري يحذره من الوقوع في مستنقع الفوضي.. الفوضي لا تزور إلا البلاد الغائبة عن الوعي الثقافي! قال الشاعر العظيم شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.. إنه يشرح انهيار الأمم في كلمتين وبس. الذبول الأخلاقي بدأ يظهر في أواخر السبعينيات مع تسلل بعض الكلمات الصادمة في سيناريوهات الأفلام. ومع بداية عصر الغناء الراقص المستفز بلا داعي.. ومع التمثيليات التليفزيونية التي تحرض علي الانفتاح بحجة العصرية والتي تدعو إلي الإباحية.. مثلها مثل أفلام السينما.. تحت أيضا مسمي الواقعية.. والواقعية رأيتها في أفلام صلاح أبو سيف.. ولم أشعر بالإحراج وابنتي تجلس بجانبي.. حتي في أشد المشاهد إثارة.. إنها ثقافة جريئة نجلبها ولكن دون خروج علي المألوف في قانون عاداتنا وتقاليدنا. وهذا الانحدار الأخلاقي صاحبه تطور مشين في نوعية الجرائم.. التي لا يمكن أن يتصورها إنسان طبيعي؟ نعم.. نحن شعب يكره العنف وليس من سماته إطلاقا.. ويمتلك جينات حضارية تأنف من هؤلاء اللاعبين الجدد في الساحة الاجتماعية.. بسلوكياتهم غير السوية. هل هذا الغزو المهين علي بعض العقول المنتمية لأرض الخير والطبيعة سببه أهل الثقة وليس أهل الخبرة الذين احتلوا القمة والمسئولية في معظم مؤسسات الدولة سابقا.. إنهم كانوا أناسا متواضعي الثقافة والانتماء للوطن.. وانتماؤهم لا يعبر إلا عن أنفسهم ومناصبهم؟!! وبدأ مسلسل التعليم المتدني عن قصد.. لإزاحة التميز الفطري المصري ليحل محله الفساد الفكري.. والوعي السطحي.. لينتج لنا قصورا في الرؤية.. وضمورا في العزيمة!!! ومع ذلك ظلت مصر ولادة لكثير من العظماء والمتميزين في كل المجالات.. والساحة الإعلامية لها نصيب أكبر من الاتهامات التي تضعها في وجه المساءلة الوطنية.. لأنها الأسهل توصيلا للمعلومة.. وهم إذا كانوا ملجأ الشعب المتاح بسهولة للترويج عن النفس.. وزيادة معرفته.. وتوسيع مداركه.. ونوافذ مطلة علي الفكر والآراء المستنيرة والمعيبة.. فعليه الحمل الأساسي في رعاية هذه الرسالة التعليمية التنويرية وحمايتها من الغزو الثقافي الرديء.. ومن احتلال القيم الخبيثة والخادعة والجانحة عن الحق.. علق عقول مشاهديها أو قرائها!! وكما قال الأستاذ محمد سلماوي: إن مصر دائما تملك القوي الناعمة التي هي قائد الثقافة والتنوير في العالم العربي.. بكتابها وأدبائها وفنانينها.. وموسيقييها.. وكانت لنا الريادة الثقافية المتميزة ومازالت. الضمير المثقف هو رائد الرسالة الإعلامية.. أما المغرض فهو رائد ثقافة الفوضي الإنسانية والاجتماعية!! الكارثة التي تواجه بلادنا الآن وتعبث باستقرارها لا ترجع إلي الإنفلات الأمني والتواضع الاقتصادي.. بل إلي التردي الأخلاقي.. والتلوث الإعلامي.. لدي البعض بالطبع وليس الكل.. وهذا البعض تأثيره يظل باقيا ومحركا لتماسك الاجتماعي ويحد من قوته؟ وإذا كان علماء الاجتماع يرجعون ظاهرة التردي الأخلاقي إلي الجهل بقيم ومبادئ الإسلام وتعاليمه.. وإلي التفكك الأسري.. وإلي احتلال الصقيع الروحي.. والبرودة في المشاعر البيوت المصرية لانعدام التواصل.. بين الآباء والأبناء وما يتبعه من تفرق فعلي.. وأصبحت الأسرة الواحدة مثل الجزر المنعزلة كل له حياته وانتماءاته التي كثيرا ما تدفع إلي التهلكة.. أو تلتف طواعية حول حقول الشيطان التي تزرع بحرارتها الحارقة تمردا في النفوس.. وغلا وجحودا في العقول.. وتزين الموبقات.. وتلوث القيم.. إنها حقول تغري أصدقاء السوء بالتزاحم حولها رغبة في لحظات عسل قاتلة.. إنهم يدسون السم في حلو الكلام.. وتبسيط الخطايا.. بلسان معسول؟! ولابد من وقفة مع الناس والنفس.. والوطن.. لحظة هدوووء وتفكير لحماية البلاد من صائدي الفتنة.. إنها مسئولية الرئيس الجديد وحكومته.. أن يبدأ برعاية المؤسسات الوطنية وإصلاحها بعلم لا يشوبه غرض.. وحق ينتصر علي الباطل.. إنها سياسة مصر الجديدة التي نتعشم انتشارها علي أرض المحروسة بإذن الله. وأسرع طريقة لاستعادة رونق مصر الذهبي.. هي الاهتمام بالثقافة.. وكما قال مصطفي ناجي المايسترو المعروف: إن مصر تملك400 قصر ثقافة تحولت من بؤر للإشعاع إلي بؤر للجهل.. ويجب أن تغذي البلاد وتثري وجدانها الذي سينعكس علي أدائها الوطني المستنير.