في صيف أحد أيام مارس من العام1963, وقف الإمام الشيعي الأبرز آية الله الخميني, يخطب في جمهرة واسعة من تلاميذه في المدرسة الفيضية, ساخرا من رجال الدين الذين انشغلوا عن الثورة ضد نظام الشاه الفاسد بالتسبيح. ومحذرا علماء الشريعة من تلويث منابرهم بالمهادنة مع النظام, ولم تمض سوي أيام معدودة حتي أصدر الشاه قرارا باعتقاله ونفيه إلي خارج البلاد, ليقضي الخميني أكثر من عشر سنوات متنقلا بين المنافي, وليلعب في الوقت ذاته عبر عشرات من رسائله المحرضة دورا كبيرا في إشعال ثورة الإيرانيين ضد نظام الشاه الفاسد. لم ينتصف العام1977 حتي انفجرت أولي شرارات الغضب التي أشعلت الثورة الشعبية الشاملة في إيران, عندما شرعت قوات الشرطة النظامية في حملة استهدفت إزالة أكواخ الفقراء من ساكني أطراف المدن الرئيسية, والتي كان يري الشاه فيها أحد أبرز مظاهر القبح التي يتعين التخلص منها في أسرع وقت, حتي لا تؤثر علي تلك الصورة الوردية التي سعي لترويجها لعاصمة امبراطوريته في عيون الغرب, دون أن يدري أنه بهذا القرار قد وضع المسمار الأخير في نعش هذه الامبراطورية الكبري. علي مدار شهور شهدت طهران, والعديد من المدن الإيرانية الكبري انتفاضات شعبية عارمة, لم تخل من مواجهات دامية بين الفقراء الغاضبين وأجهزة الأمن, سقط خلالها آلاف من القتلي والجرحي, وقد لعبت الدماء التي سالت علي الطرقات دورا كبيرا في انفجار موجات متتالية من الغضب, ساهمت في إشعالها حزمة السياسات الاقتصادية التي لجأ إليها الشاه في مواجهة الإضرابات العمالية التي انفجرت احتجاجا علي انخفاض الأجور وزيادة الأسعار, وما أفرزته من ارتفاع متزايد في معدلات البطالة, وهو ما قابله النظام الامبراطوري بمزيد من القمع الذي بلغ حد سقوط آلاف القتلي, في مواجهات سبتمبر من العام1978, والتي عرفت إعلاميا باسم مذبحة الجمعة السوداء. مع نهايات العام بلغت الاحتجاجات والاضرابات العمالية ذروتها, بعدما دخل عمال البترول علي خط الأزمة, ليصاب الاقتصاد الإيراني بالشلل التام, وقد فشل الشاه من جديد في احتواء الانهيارات المتواصلة في أركان نظامه, رغم إقدامه علي اتخاذ العديد من الإجراءات الإصلاحية التي شملت تغيير الحكومة, وتقديم عدد من المسئولين الفاسدين فيها إلي محاكمات عاجلة, قبل أن ينتهي به الأمر إلي التفكير جديا في مغادرة البلاد, بعدما امتدت حالة الغضب لتتحول إلي ما يشبه العصيان في صفوف قوات الجيش والشرطة. في يناير من العام1979 هبطت طائرة الإمبراطور المخلوع في مطار القاهرة ليحل ضيفا علي مصر بدعوة من الرئيس السادات, ولم تمر سوي أيام قليلة حتي استقبل مطار العاصمة طهران, آية الله الخميني قادما من باريس بعد سنوات المنفي, ليشارك في تأسيس الجمهورية الإيرانيةالجديدة, التي دفع الفقراء ثمنها فادحا من دمائهم, قبل أن يبتلعها الملالي, وليشهد بعينيه علي مدار سنوات ما أدت إليه صراعات السلطة من حروب تورط فيها رجال الدين, الذين هجروا طهر المنابر إلي عهر السياسة, وقد كانوا هم أنفسهم من قام بتعنيفهم لاحقا بكلماته التي صارت مثلا: توقفوا عن عض بعضكم البعض مثل العقارب. قبل عام كتبت هنا أقول أن الثورات تاريخ لا يعرف المصادفات, وها أنذا أكررها اليوم مطمئنا, وأنظر حولك الآن ثم قل لي من فضلك: كم عقربا يتصارعون علي السلطة في مصر اليوم؟