وسط برد ديسمبر القارس, وفي عتمة الليل علي ممر الطائرات المظلم; انطلقت طائرة الشاه محمد رضا بهلوي بصحبة زوجته هربا من نيران الثورة المشتعلة في شوارع ومدن إيران.. بحثا عن ملاذ آمن يقبل بهما, ولا يساورهما سوي تساؤل واحد هل سيعودون يوما لأرض الأجداد؟. فعلي الرغم من حياة الترف والبذخ التي عاشها الشاه علي قمة عرش الطاووس كما كان يطلق عليه- بصحبة زوجته الثالثة فرح ديبا وأبنائهما الأربعة, إلا أن القدر أبي إلا أن يطلعهم علي وجهه الآخر. فطائرة الشاه التي انطلقت بلا هدف لم تكن سوي بداية لرحلة مأساوية للشاه, الذي اعتلي عرش الامبراطورية الإيرانية علي مدي37 عاما, وعائلته المعذبة التي لم تنجح الأيام والسنون في إزالة ذكري الهروب المريرة من ذاكرتها وربما كانت السبب في نهايتها الأليمة. بداية الإمبراطورية: بدأت سلالة بهلوي الملكية في العشرينيات من القرن الماضي عندما تولي رضا خان بهلوي- الذي ارتقي بشكل مفاجئ من جندي إلي ملك- السلطة في البلاد, حيث بدأ علي الفور في تنفيذ خطة محكمة لتحديث البلاد والقضاء علي نفوذ رجال الدين الشيعي, مؤكدا ضرورة الفصل بين الدين والحياة اليومية للشعوب. فبدأ بإقالة القضاة والمسئولين الشيعة, كما أرسي نظاما جديدا للتعليم الحديث أثمر جامعة طهران التي فتحت أبوابها في الثلاثينيات من القرن الماضي. كما أثار الكثير من الجدل عندما منح المرأة الإيرانية حرية غير مسبوقة وأكد حقها في التعلم ودخول الجامعة, وسمح لها بالخروج بدون نقاب أو حجاب. ولكن يبدو أن قراءته لمجريات الأمور علي الساحة الدولية خلال الحرب العالمية الثانية خانته, فلم يكن تحالفه مع النازي الألماني في بداية1941 سوي نذير شؤم علي بهلوي الكبير. فسرعان ما احتلت القوات البريطانية والسوفيتية إيران وتم نفي الشاه الكبير ليتولي ابنه محمد رضا شاه بهلوي مقاليد الحكم في أغسطس من العام نفسه. الشاه الابن يواصل المسيرة: انتهج محمد رضا نفس نهج الحداثة الذي بدأه والده, ولكنه احتفظ للبريطانيين بسطوتهم وسيطرتهم علي قطاع البترول الحيوي في البلاد من خلال شركة البترول الأنجلو- إيرانية. وفي عام1952, أجبرت حركة الجبهة الوطنية بزعامة رئيس الوزراء محمد مصدق وبدعم من الحزب الشيوعي البرلمان الإيراني علي تأميم شركة البترول من خلال إنشاء الشركة الوطنية للبترول. الأمر الذي أغضب رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل وكبار رجال الدولة في بريطانيا. وفي عام1953 تضامنت إدارة الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور مع الغضب البريطاني, حيث وضعت لندنوواشنطن خطة مشتركة للقضاء علي مصدق أطلقت عليها اسم' العملية أجاكس'. ووفقا للخطة فإن الشاه- الذي تضامن مع الغرب ضد مصدق- قد عين زهدي كرئيس للوزراء بدلا من مصدق, الأمر الذي رفضه الأخير واتباعه. ومن هنا بدأ الجزء الثاني من العملية وهو الانقلاب السياسي, الذي بدا أنه فشل في البداية, الأمر الذي اضطر الشاه للفرار إلي العراق وزهدي للاختباء. ولكن بعد أربعة أيام من الاضطرابات والمظاهرات العنيفة انقلبت الدفة, وانتصرت وحدات الجيش وأنصار الشاه علي قوات مصدق, ليعود الشاه منتصرا إلي عرشه. في حين أمضي مصدق ثلاثة أعوام في السجن, وتم وضعه قيد الإقامة الجبرية في منزله البقية الباقية من عمره. الشاه يفوز بثقة أمريكا: علي الرغم من سيطرة الغرب علي ثروة إيران البترولية إلي حد كبير إلا أن الشاه قد توصل لاتفاق من شأنه زيادة حصة طهران في عائدات كل برميل من البترول, ومع تحسن الأوضاع الاقتصادية بدأ الشاه في العمل علي تحسين الأوضاع الاجتماعية وتوزيع الأراضي الزراعية علي الفقراء. ومع اندلاع أزمة البترول في1954, تضاعف التعاون والثقة السياسية والاقتصادية بين الولاياتالمتحدةوإيران. ومع تزايد هذه الثقة, زودت واشنطنطهران بأحدث طائراتها العسكرية وأسلحتها, بالإضافة للمستشارين العسكريين, ووصلت هذه الثقة إلي حد بيع واشنطن مفاعلات نووية لطهران. ولكن الوضع في الداخل لم يكن بهذا الإشراق, فالغليان الشعبي والرفض للشاه تصاعد وتفاقمت حدة المظاهرات والاضطرابات الشعبية التي اجتاحت المدن الإيرانية. الثورة الإسلامية وهروب الشاه: ومع نهاية عام1978 وبداية عام1979 كانت الثورة الإسلامية في إيران في أوجها, ولم يجد الشاه سوي العنف لمواجهة المظاهرات الشعبية الحاشدة المناهضة له والمطالبة بعودة التيار الشيعي المتشدد للسلطة, الأمر الذي أدي إلي تفاقم الأوضاع وتصاعد الأزمة, ولم يكن الهروب سوي الخيار الأخير والآمن. فقد أعلن عن قيام عائلته بإجازة في الخارج وسارع بنقل أطفاله الثلاثة الصغار إلي الولاياتالمتحدة وتحديدا تكساس, حيث كان نجله الأكبر وولي عهده رضا محمد رضا بهلوي يتدرب ليصبح طيارا في قاعدة عسكرية هناك. أما هو وزوجته الإمبراطورة فرح ديبا فقد توجها إلي أسوان ومن ثم إلي القاهرة, حيث وافق الرئيس أنور السادات علي استقبالهما. ولكن سرعان ما انتقل الشاه وزوجته إلي الولاياتالمتحدة في محاولة للم شمل العائلة, حيث ذهبا للمغرب ومن هناك إلي الأراضي الأمريكية. لكن الشاه الحليف السابق والأكبر لواشنطن- لم يكن مرحبا به هناك خاصة في ظل تداعيات احتجاز أفراد البعثة الدبلوماسية الأمريكية داخل مقر سفارتهم في طهران; وما خلفه ذلك فيما بعد من مقاطعة سياسية بين طهرانوواشنطن استمرت أكثر من عشرين عاما. رحلة الهروب إلي المجهول: ومن هنا أخذت العائلة في الانتقال من أمريكا إلي المكسيك وأخيرا إلي بنما, وهناك- وفقا لرواية الإمبراطورة المنفية- تلقي الشاه مكالمة هاتفية من الرئيس السادات تدعوه للإقامة في مصر وتلقي العلاج علي أراضيها, خاصة أنه كان يعاني من اللوكيميا واشتد عليه المرض مع كثرة الانتقال وعدم الحصول علي الرعاية الصحية الكافية. ولكن الدعوة المصرية لم تتوافق مع أهواء واشنطن. وتؤكد فرح ديبا في حديث إذاعي لراديو أوروبا الحرة- أن الإدارة الأمريكية برئاسة جيمي كارتر أكدت أنه لا حاجة لهما للطائرة المصرية التي ستقلهما إلي القاهرة وأن واشنطن ستتولي هذه المهمة, لكنهما فوجئا بالطائرة تهبط في جزر الآزور وتتوقف هناك لساعات طويلة قبل أن تتوجه في نهاية المطاف إلي القاهرة. لتفاجأ الإمبراطورة فيما بعد بأن واشنطن كانت تجري مفاوضات سرية مع الجانب الإيراني لتسليم الشاه للجمهورية الإسلامية بقيادة المرشد الأعلي للثورة الإسلامية آية الله روح الله الخميني- الذي عاد لطهران في بداية1979 بعد14 عاما في المنفي- في مقابل الإفراج عن الرهائن الأمريكيين ال54 المحتجزين في طهران, إلا أن الاحتفالات بأعياد النيروز في إيران واختلاف التوقيت بين بنما وطهران حال دون اتمام الصفقة. وفاة الشاه في مصر: ولكن القدر لم يمهل الشاه طويلا, فما إن وصل مصر وبدأ في تلقي العلاج في مستشفي المعادي حتي وافته المنية في يوليو عام1981 ودفن في مسجد الرفاعي بالقاهرة. ومن ثم فقد استقر الحال بالعائلة في الولاياتالمتحدة حيث كانوا كثيري الانتقال بين الولاياتالأمريكية وأوروبا. كما اعتادوا علي زيارة مصر بشكل منتظم لإحياء ذكري والدهم الشاه الراحل. وقد حرصت عائلة بهلوي علي الحياة في هدوء بعيدا عن السياسة, وعلي الرغم من عدم التأكد من أنهم فروا من إيران خاوي الوفاض فإن الكثيرين أكدوا أن أرصدة الشاه في الخارج كانت تقدر بالملايين. ويبدو أن هذا هو ما أمن لهم حياة كريمة في المنفي, حيث استكمل أبناء العائلة المالكة دراستهم الجامعية في الجامعات الأمريكية. لكن هذا لم يعن إطلاقا أنهم نجحوا في التوصل لبداية جديدة لحياتهم. فقد انغمسوا في دراسة وترجمة الأدب والفنون الفارسية لمختلف اللغات الغربية التي اتقنوها وهو ما يعكس حصولهم علي قدر عال من التعليم في كبري الجامعات الغربية. انتحار ليلي: ولكن يبدو أن الذكري الأليمة خلفت داخلهم جرحا غائرا أثر في حياتهم بشكل عميق, فعلي الرغم من ابتعادهم عن وسائل الإعلام إلا أن الابنة الصغري الأميرة ليلي عملت لفترة لا بأس بها كعارضة لدار أزياء فالنتينو الشهير. ومع كل ظهور إعلامي لها- ولو بشكل محدود- حرصت علي تأكيد اشتياقها لوالدها الراحل وأنه تعرض لظلم جسيم, مؤكدة أنها لا تستطيع العثور علي فتي الأحلام القادر علي منافسة نموذج أبيها وشقيقيها. وبالتالي فقد عاشت حياة هادئة ولكنها مليئة بالوحدة والاكتئاب والانعزال بالرغم من كثرة الأصدقاء والمحيطين بها, إلي أن انتهي بها المطاف جثة هامدة في أحد فنادق العاصمة البريطانية في عام2001 عن عمر لا يتجاوز ال31 عاما, إثر تعاطيها جرعة كبيرة من الحبوب المخدرة والكوكايين. انتحار علي رضا: أما شقيقها الأكبر علي رضا بهلوي فلم يكن مصيره أفضل من شقيقته, فعلي الرغم من أنه كان يدرس للحصول علي درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد التي تعد واحدة من أرقي الجامعات الأمريكية- فإن صراعه مع الاكتئاب الذي استمر لسنوات طويلة دفعه للانتحار بطلقة نارية من مسدسه, ليفقد حياته عن عمر يناهز44 عاما في مدينة بوسطن الأمريكية. أما شقيقتهما الكبري فرح ناز, فعلي الرغم من حصولها علي درجة الماجستير في علم نفس الأطفال فإنها فشلت في العمل في أي من المنظمات الدولية التي قد تستفيد من تخصصها.. وذلك ببساطة لأنها تحمل اسم عائلة بهلوي. تماسك ولي العهد: ويبدو أن ولي العهد الأمير رضا بهلوي هو الأوفر حظا, حيث استكمل تدريبه كطيار حربي ثم درس العلوم السياسية في الولاياتالمتحدة وتزوج من سيدة ذات أصول إيرانية تعمل محامية كما أنشأت مؤسسة غير ربحية لرعاية الأطفال الإيرانيين, وأنجبا ثلاث فتيات. وقد حاول الأمير الشاب المشاركة في الحرب العراقية- الإيرانية إلي جانب إيران ولكن محاولاته باءت بالفشل. وأكد مرارا رفضه لأي غزو عسكري غربي لإيران للإطاحة بنظام الملالي الحاكم هناك, مؤكدا حق الشعب الإيراني في تحديد مصيره بنفسه. أما شقيقتهم الأميرة شاهناز, من الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق, فقد عاشت في سويسرا بعد هروب عائلتها من إيران. وكان الشاه الراحل قد تزوج من والدتها عام1931 وانفصلا عام1945, قبل أن يتزوج من ثريا اسفندياري باختياري لمدة سبع سنوات فقط, وانفصلا بعد أن فشلت في انجاب أي أبناء. أما الامبراطورة فرح بهلوي فتقيم ما بين الولاياتالمتحدة وفرنسا, وقد بلغت من العمر نحو72 عاما وعاشت مأساة فقد زوجها واثنين من أبنائها, بعد أن فقدت عرشها وحياتها الامبراطورية السابقة.