أخطأ المحتجون حين راهنوا إلي الميدان بلا شعب وظنوا أنهم هم الثوار وحدهم وأنهم هم الثورة بلا منازع وأن نهجهم الاحتجاجي السلبي هو السبيل الوحيدة, لاستكمال مسار الثورة وأن كل ما عداه باطل وخائن وكافر بمقدرات ومكتسبات الثورة, وأخطأ الإخوان إيضا حين راهنوا علي الدين بلا شعب وظنوا أن الشعب حين اختارهم ممثلين له في البرلمان, قد اختارهم علي أساس ديني لاسياسي وظنوا أيضا أنهم امتلكوا بهذا التفويض اللازم للسعي لهدم مؤسسات الدولة, كما ظنوا أيضا أنهم بهذا محصنون يستطيعون فعل أي شئ وإصدار أي قانون يحلو لهم مهما يبلغ من إقصاء وتغول وتعد وتجاوز. وفي النهاية أفاقوا جميعا علي أن مصر دولة ذات عراقة مؤسسية لاتسمح بهذا التغول وهذا الإقصاء الأقرب إلي الفاشية في النهج الذي يخلط بين السياسي والديني وبين السياسي والاحتجاجي ويصبح معه الديمقراطي هو ما جاء علي هواهم وما لم تشتهيه سفنهم هو غير ديمقراطي بالضرورة وبالحتمية الثورية أو الدينية أو كليهما إن أمكن. نعم قد أفاق الجميع علي مفاجأة حكم الدستورية العليا بعدم دستورية قانون العزل وبطلان مجلس الشعب والمفاجأة هنا ليست في القرار, فقد توقعه الجاهل قبل العارف, ولكن المفاجأة كمنت في أمرين أولهما: هو جرأة القرار في هذا التوقيت السياسي العاصف, وثانيهما: هو قوة مؤسسات الدولة التي لم تخش في الحق لومة لائم فأبطلت البرلمان بعد الثورة تماما كما أبطلته قبل الثورة ولذات الأسباب والحيثيات لتبين للجميع أن الدولة باقية وأن مؤسساتها أقوي من نظام سابق أو نظام لاحق ولتثبت للجميع أن شبهة تلبيس الدولة بالنظام أو النظام بالدولة ما هو إلا تدليس وتضليل أريد به تقويض مؤسسات الدولة ووضعها دائما في حالة الدفاع أمام هجوم سافر وممنهج يهدف للإجهاز عليها وإقامة دولة ذات هوية مغايرة مكانها. وقد نسي الجميع أن تجربة مصر الحداثية وتجربة مؤسساتها أقوي من أن تهدم لهوي أو غرض في النفوس, وأن هذا هو المعني الإيجابي للدولة العميقة لا المعني السلبي الذي أراد البعض الترويج له, فعمق الدولة هو في تماسكها وارتباطها العضوي والوظيفي بالبنية المجتمعية, وأنها وإن اعتراها الضعف والهزال في وقت ما, لايعني انتفاء دورها وسهولة بترها عن عضوية ووظيفية المجتمع بأسره وبهذا وحده يقاس عمق الدولة لا بالعمق المغرض المزيف الذي تم استيراده من الآستانة خصيصا للترويج للدولة الخفية التي يراها الأناركيون وطنية متطرفة مناهضة للتغيير, ويراها الإسلاميون علمانية مناهضة للإسلام وهي دولة غير موجودة الا في مخيلة المروجين لها لهدمها والانقضاض عليها لإقامة دولتهم الضحلة مكانها. لاتوجد دولة في الدنيا إلا وتوجد بها دولة داخل الدولة, ولكن تلك الدولة الأخري ليست خارج السيطرة ولاتصنع القرار إلا من خلال الدولة الأشمل, ووجودها ضرورة سيادية ومهمتها الأساسية هي الحفاظ علي سيادة الدولة الأشمل وشكل الحكم بها, ومهمتها في مصر هي الحفاظ علي سيادة الدولة التي هي من سيادة الشعب والحفاظ علي مدنية الدولة التي ناضل الشعب من أجلها واستثمر فيها الغالي والنفيس. ولا عيب في هذا إنما العيب كل العيب هو تصويرها علي أنها دولة شيطانية تحمي مصالحها علي حساب مصلحة الشعب الذي هو صاحبها في الأساس, وأن انتصرت الدولة في حكم محكمتها الدستورية التاريخي فهي لم تنتصر لذاتها, وإنما انتصرت للشعب لأنها راهنت عليه وحده, وسوف تكمل انتصارها للشعب ولثورته رغم أنف الفوضويين واللا مدنيين والله أعلم.