في واحدة من روائع نجيب محفوظ الأدبية, رأي السيد طيب المهدي هاتفا يلح عليه في المنام من هذه الساعة وحتي يشاء الله, تستطيع أن تقول للشيء كن فيكون, فافعل ما شئت. أحس بطل القصة بقدرة خفية تجتاح كيانه, جرب هذه القوة بأن نظر إلي التليفزيون, وأمره في عقله أن يغير القناة, استجاب التليفزيون, ذعر الرجل ولم يصدق, أمره في عقله بالرجوع الي القناة الأولي, استجاب التليفزيون, كرر الأمر وطلب منه أن يجول بين القنوات, جرب قوته الغريبة مع أدوات المنزل الأخري فاستجابت سعد الرجل بقوته الجديدة واستخدمها في أعمال أخري خارج المنزل, يذهب الي القهوة, فيجد أحد أثرياء الانفتاح يجلس مختالا, متباهيا بثروته التي يخفيها ومصادرها عن مصلحة الضرائب, فيأمره بتأدية الضريبة للدولة, ويذهل الناس من حوله وهم يرون صحوة الضمير المفاجئة, وذهاب الرجل طوعا لتأدية الضريبة التي عاش عمره متهربا منها ويستمع لمذيع يقرأ بيانات حكومية, فيوحي اليه بأن يعطس ولايكمل الحديث المكذوب, وكأنه الرقيب الشعبي الصادق علي الإعلام, يجوب بين المصالح الحكومية لتأدية حاجات الناس وإصلاح الاعوجاج, وهكذا تتوالي أحداث القصة ويثمل الرجل بقوته فهي معجزة الدهر, وينتشي بسطوته وسيطرته علي الأمور والأشياء, بل والناس, يلقي حسناء, يأمرها في عقله بأن تستجيب له وتعجب به ويذهبان معا حيث نسيا الدنيا والدين, يرجع الي منزله مهموما, مقرا بخطئه شاعرا بذنبه, يجلس أمام التليفزيون يأمره بالفتح فلايستجيب, يكرر الأمر فلا يستجيب. تلك كانت قصة الرجل القويإحدي القصص القصيرة في مجموعة نجيب محفوظ القصصية بعنوان القرار الأخير وكانت مدخلي لمناقشة موضوع التخاطر في كتاب كنتم عايشين إزاي؟ الذي تعرض لتأثير تطور التكنولوجيا عموما,وتكنولوجيا الاتصالات خصوصا, علي أساليب الحياة, وتغير أنماط المعيشة فيما بين الماضي والحاضر والمستقبل. وتساءلت في الكتاب الصادر عن الأهرام في2009 م, معلقا علي تلك القصة,أهي خيال معقول, أم ضرب من الجنون؟ وهل نستطيع التخاطر يوما مع التليفزيون؟ وجاءتني الإجابة عن سؤالي أسرع مما كنت أتوقع, فالسيد طيب المهدي ليس خيالا ولاجنونا,إنه حقيقة واقعة, فلقد شهدت في مكتبة الإسكندرية في مؤتمر رؤية الحياة الذي أقيم منذ عدة أسابيع, محاضرة الدكتور كيفين وارويك أستاذ علم التحكم الآلي في جامعة ريدينج ببريطانيا, وهو يشرح دراساته في مجال التخاطر بين الإنسان والآلة, حيث يكمن التحدي الأكبر في فهم ماهية التخاطر نفسه وآليات حدوثه, والطريقة السهلة والناجعة لتسجيل النشاط الكهربائي الذي تطلقه الخلايا العصبية في الدماغ,وقراءة إشارات المخ التي تسجل انعكاسات السريرة ونجح الدكتور وارويك في التخاطر مع إنسان آلي( روبوت) وتوجيهه من أوامر صادرة عن العقل مباشرة!! المذهل أن المحاضر تعرض لعملية جراحية لزرع مجسات كهربية وشريحة إلكترونية داخل يده ليقوم جهازه العصبي بإرسال إشارات الأمر بالحركة من الدماغ مباشرة لتلتقطها المجسات الإلكترونية في الإنسان الآلي, وتحولها لحركة فعلية, كما نجح في التخاطر مع الكمبيوتر الخاص به بتوجيه أوامر دماغية مباشرة محولا خيال محفوظ الأدبي الي واقع وارويك العلمي. يقول الدكتور وارويك مداعبا: علي كل أستاذ جامعي أن يخضع لعملية جراحية مشابهة لخدمة بحوثه!!ولعل الرجل كان جادا أكثر منه مداعبا, فقد خضعت زوجته لجراحة مشابهة لتساعد زوجها في بحوثه, ووضعت شريحة( أقل تعقيدا من التي استخدمها زوجها) في ذراعها, واستطاع الزوجان التواصل أو التخاطر عن بعد( من خلال الانترنت) ليسجلا سابقة لامكانية التواصل الإلكتروني بين الأجهرة العصبية البشرية. تقول الزوجة المحبة, أردت أن أشارك زوجي في بحوثه, وأنا سعيدة بذلك ولكنه يطمح في تركيب شريحة الكترونية في المخ مباشرة, ولا أظن أني سأشاركه هذه التجربة, عليه أن يبحث عن مساعد غيري, بشرط ألا تكون إمرأة!! تثير تلك البحوث وتداعياتها أسئلة عديدة, فالمفارقة مذهلة بين مايشغل العالم المتقدم, وسعيه لامتلاك ناصية العلم وتطبيقاته, وبين عالم يتخبط في الخزعبلات والخرافة فما أعظم الفجوة بين العلم والجهل, ولنتفكر في تداعيات السيطرة المباشرة علي عقول البشر, وخطورة تطبيقاتها العسكرية( أو المدنية),فماذا لو تحول السيد طيب المهديالي شرير ضال فكما تخيل محفوظ بإمكانية حدوث تلك القوة العقلية فإنه تنبأ أيضا بإمكانية أن تحيد عن الصواب مع ما لهذا من مخاطر, وماذا لو عمد بعض الذين يمتلكون آلات السيطرة الالكترونية علي العقول أو غيرها من آلات السيطرة وأجهزتها القهرية الي إطلاق رجالهم ممسوحي العقل مسلوبي الإرادة, معدومي الضمير علي الأبرياء النبلاء من أبناء الوطن, ولقد شهدنا بعضا من ذلك وقد حدث في ميادين مصر الكبري وشوارعها بدون الكترونات أو شرائح مزروعة. ملاذنا التوجه الي برامج توعية وثقافة راقية, وتعليم متطور جاد, يحوي المعارف العصرية, ويشحذ مهارات التفكير والتحليل الناقد, ويحافظ علي القيم الدينية والمجتمعية الأصيلة,ليحمينا من شرير ضال قد يحاول أن يحكمنا أو يتحكم فينا من جديد جامعة الإسكندرية