لم تكن معجزة التنين الصيني الاقتصادية الراهنة مجرد معجزة اقتصادية تنموية محلية اقتصرت ثمارها وتداعياتها الواسعة النطاق علي المجتمع الصيني فحسب. ومن ثم ظلت توابعها الزلزالية حبيسة البر الصيني المترامي الأطراف, وإنما كانت هذه المعجزة بمثابة مصباح سحري عالمي حقق علي مايبدو حلم السواد الأعظم من البشرية في الاستمتاع بحد أدني من الرفاهية, وذلك عبر طوفان لم يسبق له مثيل من السلع الرخيصة من الإبرة الي الصاروخ كما يقال. وأصبحت الصين بفضل نهضتها الصناعية وانفتاحها علي العالم علي مدار العقود الماضية بمثابة مصنع العالم الأعظم وورشة الدنيا الكبيرة. وبات في مقدور الفقراء في شتي أرجاء العالم التمتع بحد أدني من الرفاهية السلعية بشراء السلع الصينية بأبخس الأثمان, من الملابس والأجهزة المنزلية والإلكترونيات ووسائل الاتصال والسيارات ولعب الأطفال وحتي المواد الغذائية. وإجمالا فان هناك مايمكن ان نسميه بالمراحل التاريخية الاقتصادية الرئيسية التي مر بها المجتمع الصيني في العصر الحديث. وتتمثل اولي هذه المراحل فيما يعرف بمرحلة ماقبل الثورة الصينية( وهي الثورة التي اندلعت في عام1949) وقد كانت هذه المرحلة من أصعب المراحل وأشدها قسوة في التاريخ الصيني الحديث. فقد كان الاقتصاد الصيني خلال هذه الفترة اقتصادا زراعيا شديد التخلف. وقد شهدت الصين خلال هذه المرحلة سلاسل متتالية من المجاعات المروعة والكوارث الطبيعية العنيفة. وكانت سمات الفقر والبؤس والحرمان هي السمات الغالبة علي المجتمع الصيني آنذاك مع سيطرة حديدية من النظام الإقطاعي الذي كان يحكم البلاد اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. وحتي القطاع الزراعي كان شديد التخلف, وكان المجتمع الصيني معزولا عن العالم بأسره. ثم اندلعت الثورة الشيوعية في الصين في عام ألف وتسعمائة وتسعة وأربعين حيث جري إلغاء النظام الإقطاعي, وتم تأميم أملاك الإقطاعيين وبدأ النظام الاشتراكي الجديد بالنهوض بالزراعة عبر استخدام أساليب جديدة ومتطورة بعض الشيء, وذلك كله مع بدء إرساء اللبنات الأولي الإستراتيجية لوضع الصين علي خريطة الصناعة العالمية. وفي أواخر سبعينات القرن المنصرم طرح الزعيم الصيني الراحل دينج شياو بنج الذي يوصف بأنه أبو الصين الحديثة فلسفته الاقتصادية التي قلبت الأوضاع في الدولة الصينية رأسا علي عقب. القط الصيني. وقد كان جوهر هذه الفلسفة مثل صيني بسيط, لكنه عميق المعني وينطوي علي منحي عملي وبرجماتي ومرن بشكل هائل. ويقول هذا المثل الصيني ليس مهما ان يكون القط ابيض أو أسود, وإنما المهم ان يصيد الفئران. وهكذا طرح دنج شياوبينج بجرأة يحسد عليها فكرة في غاية الأهمية والخطورة, تتمثل في انه يمكن للاشتراكية تبني آليات اقتصاد السوق الحرة تماما مثل الرأسمالية, مشيرا في هذا الصدد الي ان فكرة وجود اقتصاد السوق في المنظومة الرأسمالية فقط هي فكرة خاطئة كلية, ومستنكرا في الوقت ذاته مسألة عدم تطبيق اقتصاد السوق في إطار المنظومة الإشتراكية. علي ضوء هذه الفكرة الجريئة التي طرحها بنج بقوة, شيدت الصين في عام ألف وتسعمائة وثمانين أربع مناطق اقتصادية خاصة في أربع مدن تقع عند السواحل الجنوبية للبلاد. وشيئا فشيئا, تم توسيع هذه المناطق بشكل مطرد بهدف وضع حجر اساس لمنظومة رأسمالية في إطار المنظومة الاشتراكية الصينية الماوية( نسبة الي الزعيم الشيوعي الراحل ماو تسي تونج). ونجحت فكرة بينج في جعل الصين اكبر مصنع في التاريخ, بل وباتت الصين اكبر مصدر للسلع في العالم لتتفوق بذلك علي ألمانيا التي كانت حتي عام ألفين وثمانية تحتفظ بقوة بهذا اللقب الاقتصادي الكبير. ففي عام ألفين وتسعة أعلنت منظمة التجارة العالمية ان الصين اصبحت اكبر مصدر في العالم, متقدمة بذلك علي ألمانيا للمرة الأولي, وذلك بعد ان وصلت قيمة صادراتها الي اكثر من تريليون ومائتي مليار دولار, وذلك مقارنة مع حوالي تريليون ومائة مليار دولار فقط لألمانيا في ذلك العام( عام ألفين وتسعة). كما اكد تقرير لمؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية والمعروف اختصارا باسم الأونكتاد في جنيف بسويسرا هذا العام أن الصين وللمرة الأولي لم تصنف فقط كأكبر مصدر لمنتجات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لكنها احتلت صدارة قائمة اكبر الدول المستوردة لهذه المنتجات في العالم. وأشار التقرير الي ان الصين باتت افضل واجهة لسبع من أكبر عشر شركات مصدرة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العالم. وأضاف التقرير الذي استند الي إحصاءات للفترة بين عامي ألفين وألفين وعشرة ان الدول النامية باتت تؤدي دورا واضحا ومهما علي صعيد تجارة سلع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بصفة خاصة وان هذا القطاع أظهر مرونة كبيرة خلال الازمة الاقتصادية العالمية. كما اكد التقرير ان اجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية والاقراص المدمجة والشرائح الالكترونية واجهزة التليفزيون والاجهزة السمعية الاخري حققت ارقام مبيعات غير مسبوقة وهو ما ساهم في نجاح هذا القطاع في ظل تقلبات الازمة الاقتصادية العالمية. كما ذكر التقرير ان الدول الآسيوية النامية أصبحت مصدرة لسلع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات حيث ارتفعت صادراتها من ثمانية وخمسين في المائة في عام ألفين وثمانية الي حوالي ثلاثة وستين في المائة في عام ألفين وعشرة وتخطت صادرات الصين عشرة اضعاف مستواها في بداية العقد الحالي(2000 2010) فبلغ حجم صادراتها460 مليار دولار متفوقة علي الولاياتالمتحدة التي سجلت صادراتها135 مليار دولار.