عن سلسلة إبداعات بالهيئة المصرية العامة للكتاب, صدر للشاعر المصري إبراهيم رفاعي ديوانه الثاني'' هزيمتين وأوصل'' كي تتضح تجربته الشعرية والتي أشرت من قبل لها خاصة في ديوانه الأول'' قلب أراجوز''. وقد اتضحت ملامح قصيدته في هذا الديوان والذي أري أنه قفزة عالية عن ديوانه السابق, فقصيدته أصبحت تمسك بالحكاية دون ادعاء وصور مهزوزة لا يجمعها رابط, وأمست تطرح فلسفة واضحة مستمدة من واقع مرير ولا تخلو من إيقاع موسيقي حر ومن معرفة ببحور الشعر. وامتازت بتحررها دون تشظ, بل قبضت علي لحظات منسية في عمر الإنسان. إن تلقائية الكلمة هي إحدي سمات هذا الديوان, بل هي تلقائية سرد شعري غارق في بحور العامية المصرية والتي من إحدي خصائصها: أنها دائما في طور النمو والتحور, حيث أنها تتشكل مع كل حالة سرد مزخرف بعبارات شعبية وريفية حولها الواقع إلي رؤية سوريالية تلخص في إطار واضح حالة الشاعر. وإذا كان عنوان هذا الديوان عنوانا إنهزاميا فإنه أيضا يساهم في رسم صورة ضبابية من الممكن أن تقبلها كحلم أو كهذيان أو كسخرية من واقع هزمته الأحداث, وبطل هذا الديوان استمد بطولته علي غير العادة من تعدد هزائمه, فهي إما هزائم في ماضيه, وإما هزائم توارثها من سلفه, كصورة جده التي رآها تضحك في قصيدة( روح للشتا) وإذا كنت قد أشرت إلي سريالية المشهد وغرائبية الفعل فأيضا لا تتعجب أن يستمد بطل, بطولته من هزائمه. فالبطولة هنا ليست فروسية يلوح صاحبها بسيفه متحديا الواقع الفج ولكن البطولة هنا بطولة في تمكنه الصلد من اختراق مشاعرك وبراعة التعبير بمفردات شبه مهملة عما أثقل هذا الواقع بهموم حياتيه تلخص معني الحياة. فالبطل هو طائر صغير يري العالم من عل, وهو نملة تري من حولها وكأنهم عمالقة سيسحقونها. وإذا رأي صورته في مرآة يري كل العالم يتآمر لهزيمته. إن عنوان الديوان له دلالة صارمة في مضمونه فهو في معناه الظاهري يقول: أن كيفية الوصول لتحقيق الحلم لا يحدث إلا بكثرة الهزائم وأيضا يشير لك أن الوصول مرتبط ارتباطا كليا بالهزائم أو بالأحري من الممكن أن تحصي عدد الهزائم التي لا بد من اختراقها كي تصل. وإذا كان الشاعر قد حرر الصورة من أثر الواقع لتسهل عليه التعبير عما حققه من هزائم, فإنه بذلك قد أعطي لصورته أكثر من بعد, بل إن صورته السريالية هذه ورغم تحررها من قواعد التشكيل الصارمة إلا أنها اتسمت باحتوائها عدة مناظير متشابكة ومتعانقة ولا تخلو من مفردات وعناصر بيئية بسيطة تسربلت وتشظت لتسهل ترجمتها وترجمة الواقع الانهزامي الذي تصدر الغلاف, ولا يقف الديوان عند حد تسربل الصورة فقط ولكنه قد حرك العناصر الساكنة بغرائبية الفعل لا تلبث إلا أن تصدقه كي يكمل السرد مثل( كل صوابعي الشمع حوالين منها اتقادت) وذلك في قصيدة'' المولد'', ومثل( بيعبي أحلامه الميته في شيكارة تحت بير السلم) وذلك في قصيدة'' إزاي هتطلع شبهي'' وورد الشتا قرر فجأة ما يبقاش خواف'' في نفس القصيدة''. وما تتسم به معظم قصائد الديوان هو حركة الصورة ومرافقتها للفعل وتحورها مع كل حالة لتعطي لك مشهديه درامية تجعل القصيدة أقرب للحكاية, فأصبح لها بداية وسرد وصورة متحركة تصل بك إلي نهاية, وقد أضفت علي القصيدة أيضا أحد أهم العناصر ألا وهو التشويق وذلك مصحوبا بإيقاع موسيقي خافت بكل الإطار. ولأن كتابة قصيدة عامية هي مراهنة وعلي الشاعر أن يبحث عن كل الحيل ليصدقه المتلقي, والذي بدوره لا ينفصل مطلقا عن مفرداته وكلماته فهو ينطق ويتحدث بنفس كلام القصيدة فهو إما أن تأسره ويقف مشدوها متعجبا من استخدامك ألفاظه وعباراته ووضعها في سطر شعري يهز وجدانه وإما أن ينفر من استخدامك السييء لكلماته ووضعك لها بشكل ساذج أقرب إلي كلمات ممسوخة ولكي يحل الشاعر أزمة القصيدة والتي أراها بالفعل مراهنة لجأ إلي الصورة بكل تقنياتها, ثم إلي الحلم كي يتحرر من واقعية المشهد وليظهر فلسفته, ثم إلي غرائبية الفعل, والذي دائما تحيل هذه الغرائبية إلي الحلم أو إلي بطل القصيدة, والذي دائما ما يدشن الشاعر لك أنه خرج عن الوعي وانفصل عن الواقع ويبحث عن بدائل متخيلة تحل له أزمته ولو بشكل مؤقت فيحاور الشجر والبحر والسماء والرصيف والبراويز والحقول بلغة معاتبة أو مصاحبة أو بكائية. ولم يلجأ مطلقا إلي لغة التحدي الجامدة فهو كما اتفقنا جنح إلي الانهزام الذي صنع منه بطولاته, ولا أخفي سرا أنها معادلة يصعب علي المتلقي تصديقها إلا إذا آمن بقدرية الحياة والتي نادرا ما تحن علي الضعفاء, أو أنه ركن إلي غالبية العوام. إن الأغلب منهم والأعم ينتمي إلي الانهزام لا إلي البطولات ومن منهم لا توجد في سيرته هزائم, ولكن الوصول في الديوان هو وصول مبني علي قناعة البطل بما حققه من أحلاما, وقد تكون هذه الأحلام في حقيقتها أحلام بسيطة مهمشة لا ترقي أصلا لمستوي الحلم بأمنياته الشاردة والتي تصل إلي حد استحالة تصديقها, ولكن حلمه ينتمي إلي البحث عن نمو وانطلاق الروح, وعن النفس التي تتراكم بفعل التراكيب الحياتية, وقد استأنس الأشياء من حوله, وحاورها, وصادقها, وغضب منها, ولم يكن منظرا إنما هو متماش مع مفرداته وعناصره كعقيدة خيط في كليم منسوجة عليه صورة لا تخلو من كل مفردات البيئة الشعبية ولم يفلت الديوان من استدعاء الموت في معظم القصائد بل كان شريكا أساسيا في صناعة القصيدة, أو بالأحري هو الخلفية التي أضفت علي جو القصيدة لمسة حزن وألم, واختصرت كل الطرق لتوضيح فلسفة الشاعر عن الحياة بكل متناقضاتها. الموت غالبا كان البطل رغم ادعاء الصبر والجلد والبحث عن البهجة والتخلي عن العقد التي تعيقه, حتي تعريفه للموت تعددت صوره. إما صورة مباشرة وواضحة, أو صورة ضبابية, أو فرح يؤدي إلي موت, أو حزن يطارده فتعرف نهايته, أو هروب منه أو مصاحبته كي يتقي شره, أو السخرية منه, أو تشبيه للأشياء والأفعال من حوله بكلمة الموت. لدرجة أنه يجعلك تشك هل الوصول في الديوان بعد تعدد الهزائم هو الوصول إلي الموت كي تتحرر الروح ويسقط الألم, أم الوصول كما أشرت من قبل هو إلي تحقيق الحلم البسيط والذي لا يعلو سقفه إلا قليلا. وأنا أدعي أن المسافة بين الاثنين قصيرة جدا. وهي بالمعني الأصح مسافة الحياة التي حاول الشاعر أن يلخصها في معظم عناوين القصائد. وثمة علاقة بين الحلم وسريالية المشهد وغرائبية الفعل وبين الموت. وهي العلاقة القائمة علي أن تصدق كل الاحتمالات. من( السلالم تطلع لتحت) في قصيدة'' طابور أيامك''. ومن( وأنا نايم بيطلع مني واحد ما يشبهنيش خالص). ومن( شبورة الصبح اللي بالعه في بطنها كل معالم السكة) في قصيدة'' يارب ما يكونش ولد'' إن ديوان إبراهيم رفاعي هزيمتين وأوصل لخص أزمة الحياة في سرده الشعري وفي تعدد هزائمه. محمد عكاشة ناقد وأديب