الإدارية العليا ترفع جلسة طعون انتخابات النواب للقرار    العملات الرقمية ترتفع نسبيا .. وبيتكوين تتجاوز 86 ألف دولار    وزير الإنتاج الحربي يؤكد ضرورة الالتزام بتعزيز التصنيع المحلي وتطبيق الحوكمة    البترول وهيئة قناة السويس توقعان مذكرة تفاهم حول إجراءات إنشاء محطة لإسالة وتموين الغاز الطبيعي المسال    رئيس جنوب إفريقيا: مجموعة العشرين يجب أن تتحرك بجرأة لدعم التنمية المستدامة    أردوغان: سأهاتف بوتين غدا لبحث إنهاء الحرب مع أوكرانيا وتفعيل ممر الحبوب    مصادر إسرائيلية تكشف الشخصية المستهدفة في الغارة على ضاحية بيروت الجنوبية    استبعاد دغموم نجم المصري البورسعيدي من قائمة الجزائر لكأس العرب    إبراهيم بن جبرين: برنامج شركاء الأندية بكأس الرياضات الإلكترونية حقق نموا حقيقيا لنادي تويستد مايندز    تعرف على غيابات الزمالك في مواجهة زيسكو الزامبي بالكونفدرالية الليلة    الأرصاد: درجات الحرارة حاليا أعلى من المعدلات الطبيعية بنحو 6 درجات    تأجيل محاكمة 80 متهما بقضية "خلية الهيكل الإدارى للإخوان" لجلسة 12 يناير    الداخلية تشارك الأطفال الاحتفال بيومهم العالمي بزيارة لقطاع إدارة النجدة النهرية    إسلام كابونجا باكيًا: بتحاسب على فيديوهات قديمة وآسف لو سمعتكم كلمة وحشة    نقابة الإعلاميين توقع بروتوكول تعاون مع مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي    أغنية إيطالية عن "توت عنخ آمون" تشعل المنصات وتعيد وهج الحضارة المصرية للعالم    الفنانة التونسية عفاف بن محمود تحتفي بجائزة أحسن ممثلة بمهرجان القاهرة.. ماذا قالت؟    أوبرا القاهرة تقدم «الفلوت السحري» على المسرح الكبير يومي الثلاثاء والأربعاء    وزارة الصحة: لقاح الأنفلونزا هام لكبار السن لحمايتهم من العدوى    نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة يستقبل سفير قطر لبحث تعزيز التعاون الصحي المشترك    فضيحة "مشروع الزئبق"| كيف أخفت "ميتا" أدلة ضرر منصاتها على الصحة العقلية؟    مواعيد الاجازات.. بالرابط تفاصيل التقييمات الأسبوعية للمرحلة الابتدائية لتعزيز مهارة الطلاب    أمين البحوث الإسلامية: دار الإفتاء حصن منيع للمجتمع في عصر الفتن وفتاوى المتفيهقين    وزير الخارجية يبحث مع رئيس وزراء قطر تطورات الأوضاع في قطاع غزة    سباليتي يعترف بتأخره في الدفع بالتبديلات أمام فيورنتينا    تزايد القلق داخل ليفربول بعد السقوط أمام نوتنجهام فورست بثلاثية نظيفة    ازدحام غير مسبوق للشاحنات الإنسانية عند معبر رفح وسط استمرار الأزمة بغزة    موعد ميلاد هلال شهر رجب 1447 وأول أيامه فلكيا . تعرف عليه    قصف إسرائيلي يستهدف سيارة في عيتا الشعب جنوبي لبنان    تحصين 94,406 رأس ماشية عبر 1,288 فرقة بيطرية خلال 4 أسابيع بأسيوط    مصرع سائق توك توك بطلق ناري على يد عاطل بعد تدخله لفض مشاجرة في شبرا الخيمة    «المنوفية» تحصد 12 ميدالية في «بارلمبياد الجامعات المصرية»    محافظ الشرقية: المرأة شريك أساسي في بناء الوطن وحماية المجتمع    مسيرات أوكرانية تهاجم محطة رئيسية للتدفئة والكهرباء فى موسكو    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : فانصروا الوطن يرحمكم الله !؟    جامعة بني سويف ال 8 محليا و 130 عالميا في تصنيف تايمز للعلوم البينية 2025    «التموين» تنتهي من صرف مقررات نوفمبر بنسبة 94%    كلية التمريض بجامعة القاهرة الأهلية تنظم ندوة توعوية بعنوان "السكري والصحة | غدًا    أسامة الأزهري: الإفتاء تستند لتاريخ عريق ممتد من زمن النبوة وتواصل دورها مرجعًا لمصر وسائر الأقطار    مواجهات مثيرة.. مواعيد مباريات اليوم الأحد والقنوات الناقلة    نصر: قيمة رعاية الزمالك لا تصل للربع بالنسبة للأهلي    «غرق في بنها».. العثور على جثة شاب أمام قناطر زفتي    القاهرة الإخبارية: الاحتلال ينفذ عمليات نسف وتفجير بمدرعات مفخخة شرق غزة    مصطفى كامل: محدش عالج الموسيقيين من جيبه والنقابة كانت منهوبة    أول لقاح لسرطان الرئة فى العالم يدخل مرحلة التجارب السريرية . اعرف التفاصيل    تشمل مارينا لليخوت.. مصر تطرح 9 فرص للاستثمار بمدينة الجلالة    كمال أبو رية يكشف حقيقة خلافه مع حمادة هلال.. ويعلق: "السوشيال ميديا بتكبر الموضوع"    مركز المناخ يتوقع تقلبات جوية قوية يومى الإثنين والثلاثاء.. وسيول محتملة    «سويلم» يتابع منظومة الري والصرف بالفيوم.. ويوجه بإعداد خطة صيانة    أنواع الطعون على انتخابات النواب.. أستاذ قانون يوضح    بدء فعاليات التدريب المشترك «ميدوزا- 14» بجمهورية مصر العربية    "عيد الميلاد النووي".. حين قدّم الرئيس هديته إلى الوطن    وزارة الصحة: معظم حالات البرد والأنفلونزا ناتجة عن عدوى فيروسية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 23-11-2025 في محافظة قنا    وزير الري: أي سدود إثيوبية جديدة بحوض النيل ستقابل بتصرف مختلف    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 23 نوفمبر    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 22-11-2025 في محافظة الأقصر    خلاف حاد على الهواء بين ضيوف "خط أحمر" بسبب مشاركة المرأة في مصروف البيت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الذكري الأولي لوفاه د‏.‏ محمد سيد محمد
أستاذ الجامعة عندما يشد أزر المبدعين‏..‏ ويقدم الأسوةالحسنه للحالمين

في العشرين من ديسمبر العام‏2010‏ توفي العالم الجليل أستاذنا الدكتور محمد سيد محمد استاذ الصحافة وعلوم الإعلام والاتصال الجماهيري بكلية الإعلام جامعة القاهرة.
وكان رحيله خسارة فادحة للجامعة المصرية والتعليم العالي والدراسات الإعلامية في الأمة العربية والإسلامية‏,‏ ومصابا جللا عند زملائه وتلاميذه الذين وقفوا علي اسرار تميزه العلمي وتفرده الأخلاقي والإنساني بمنظومة من القيم المثالية النادرة التي جعلت منه بجدارة صاحب مدرسة علمية عامرة تجمع بين خصوبة المنطلقات‏,‏ وكفاءة المنهج‏,‏ وصلاحية الأداة‏,‏ ونزاهة الضمير‏,‏ وأمانة الرصد‏,‏ ودقة التسجيل‏,‏ وبلاغة التعبير‏,‏ وعمق التحليل‏,‏ وموضوعية الاستخلاص‏,‏ وأصالة القصد‏,‏ ونبل الغاية وهي المدرسة التي ابهرت تلاميذه في مصر كما في بقية الأقطار العربية‏,‏ وأسرعت اليها حشود من الباحثين الذين وجدوا أنفسهم معه بحكم جاذبية النموذج العلمي والأخلاقي والإنساني الذي جسده الراحل الكبير طوال سني حياته‏.‏
لم أسمع استاذنا يوما يدعي انه ثوري أو راديكالي أو مناضل أو حتي مصلح‏,‏ ولم يزعم ذلك فيما انتج من اسهامات علمية منذ الإعلام والتنمية‏(1978)‏ و الصحافة سلطة رابعة‏..‏ كيف؟‏(1979)‏ و المؤسسة الصحفية‏(1979)‏ والزيات والرسالة‏(1982)‏ و هيكل والسياسة الأسبوعية‏1982‏ وصناعة الكتاب ونشره‏(1983)‏ و المسئولية الإعلامية في الإسلام‏(1983)‏ والإعلام واللغة‏(1984)‏ و الصحافة بين التاريخ والأدب‏(1985)‏ والغزو الثقافي والمجتمع العربي المعاصر‏(1996)‏ والمصداقية في الاعلام العربي‏(2006)‏ لكنك حين تقرأ أيا من هذه الكتب يستقر يقينك بأنك بصدد‏(‏ عالم قدير‏)‏ في‏(‏ استراتيجيات صنع التغيير‏)‏ وحين تقف مليا أمام انتاجه العلمي والفكري تكتشف أنك بصدد‏(‏ مفكر وطني‏)‏ من طراز فريد‏,‏ ومن الأرضية الوطنية يلقي أضواء كاشفة علي غياب العدالة في التغطية الإعلامية نتيجة التركيز علي العاصمة وتجاهل الأقاليم‏,‏ والولع بمتابعة أخبار المسئولين وتجاهل أحوال المواطنين‏,‏ والتركيز علي نجوم الفن والرياضة وعدم الاهتمام بالقوي المنتجة التي تنجز تنمية المجتمع وتصنع نهضته‏.‏
بين الباحثين وعلماء الصحافة والاتصال الجماهيري‏,‏ احتل استاذنا موقع‏(‏ الفقيه الفيلسوف‏),‏ فلم ينشغل بمشكلات الممارسة قدر انشغاله بالمبادئ التي يحتكم اليها الإعلاميون في حركتهم وتمثل مرجعيتهم في تغطية قضايا المجتمع وفي مواجهة الشكوي المتصاعدة من تدني مستوي الإعلاميين وعدم درايتهم أو إجادتهم للقدرات والمهارات المطلوبة للعمل الإعلامي‏,‏ اتجه للتركيز علي الإطار العقدي والقيمي لنظم تربية الإعلاميين وتأهيلهم والبرامج الحاكمة لتدريبهم والأهداف المطلوب انجازها‏,‏ كان دائم التساؤل عن‏(‏ مضمون‏)‏ رسائل الماجستير والدكتوراة‏,‏ ومهموما بالبحث فيها عن‏(‏ الفكر‏)‏ الذي يمكن ان يعكس مدي فهم الطالب للهدف من البحث العلمي‏,‏ وجدوي هذه الدراسات‏,‏ والقيمة التي يمكن للمجتمع ان يكتسبها من ورائها‏,‏ ثم مدي جدية الجامعة نفسها في رعاية المفهوم السليم للبحث العلمي واستراتيجياته وغاياته‏.‏
كانت الخصوبة الفكرية هي المدخل الذي أثار اهتمامنا بشخصية الدكتور محمد سيد محمد استاذا واستاذية‏,‏ فالجامعة المصرية تزخر بالكثير من الأساتذة ب‏(‏ الرتبة‏),‏ والقليل من الأساتذة‏(‏ الأساتذة‏)‏ ب‏(‏ العلم‏)‏ و القدرة‏)‏
وهذا معناه أننا بصدد كثيرين ممن حصلوا علي درجة‏(‏ أستاذ بقرار‏)‏ ولكن من دون أن يصلوا بعد الي مستوي‏(‏ الأستاذية‏)‏ التي يستحيل علي أي لجنة أو أي قرارات تصدر عنها أن تجعل تحققها أمرا مضمونا في هذا الشخص أو ذاك من أولئك الذين قررت أن تجعلهم أساتذة‏.‏
في ظل هذا الواقع‏,‏ عشنا نحن المعيدين والمدرسين المساعدين منذ مطلع الثمانينيات هموما ثقيلة أرقت حياتنا وعكرت صفوها وفتحت علينا نيرانا تساقطت فوق رءوسنا‏,‏ ومن كثرة ما انهال علينا من شظايا لم نكن ندري من أي صوب تجيء‏!!‏ وإذا كان دخان هذه النيران قد أصابنا كثيرا بالاختناق‏,‏ فإن شظاياها أدمتنا ولم يبق جزء من أجسادنا إلا وتري فيه أثار هذه الدماء‏.‏
احتجنا الي وقت لندرك أن هذا طبيعي جدا في المؤسسة الجامعية المصرية التي تسيطر علي علاقات العمل فيها روح انتقامية تتيح للكبار ممن صاروا أساتذة أن يمثلوا بجثث المعيدين والمدرسين المساعدين من دون أن يجدوا من يراجعهم أو يخبرهم بأن هذا حرام‏.‏
كانت مأساتنا أكبر من أن توصف‏,‏ وكدنا أن نموت من كثرة الاختناق وألم الجروح الغائرة لولا أن الله أرسل إلينا هذا الرجل‏(‏ الأستاذ حقا‏)‏ ليصد عنا غارات‏(‏ التتار‏)‏ من طغاة الجامعة ويواجه أقرانه من أكثر خلق الله استبدادا وتسلطا ممن يستمتعون بتعذيب الأجيال التالية التي تصغرهم عمرا ودرجة ومنصبا‏,‏ وممن يجاهرون بحبهم للظلم ويقفون علي الملأ ليعلنوا دونما حرج أو حياء أو خشية إن متعتهم لاتتحقق إلا عندما ينامون ليلهم ظالمين في واحد من أكثر المشاهد إرهابا وترويعا لجيل من المعيدين والمدرسين المساعدين يؤمن بأن الجامعة قلعة من قلاع العلم والفكر التي تزدهر بالحرية وتتقدم بالعداء للتسلط والاستبداد‏,‏ وأن أساتذتها ينبغي أن يكونوا نماذج مضيئة لمواطنين صالحين‏,‏ ونفوسا سوية طاهرة نقية‏,‏ وقلوبا رحيمة‏,‏ وعقولا تعي أصول التواصل ومسئوليات التربية وتقاليد الرعاية وسنن الله في التغيير والتداول‏.‏
من هنا تنبهنا الي مفهوم الأستاذية وأدركنا أن كثيرين في الجامعة المصرية ممن صاروا أساتذة يفتقرون الي‏(‏ الأستاذية‏)‏ وأن هذا يضرب شرعيتهم في مقتل والأستاذية التي نقصدها‏(‏ مكانة‏)‏ مميزة يحظي بها‏(‏ الأستاذ‏)‏ لدي جمهوره من الطلاب والباحثين والقراء‏.‏
وهؤلاء جميعا هم وحدهم الذين يقرون ب‏(‏ أستاذيته‏)‏ طواعية‏,‏ وبكامل إرادتهم‏,‏ ولاينطلي عليهم أن يذكرهم هذا أوتلك في كل وقت وحين بأن يتنبهوا إلي أنه‏(‏ أستاذ‏)‏ ولا يمكن لأحد أن يجبرهم علي تبني غير الذي يرونه جديرا بأن يخلعوه علي أستاذهم‏.‏
وهذا يتطلب أن يدرك عضو هيئة التدريس بالجامعة أنه يملك الإرادة الذاتية ليكون‏(‏ أستاذا‏)‏ وفق نظم الترقية المعتمدة بالجامعة‏,‏ لكنه لايملك حقا في الإدعاء بأنه جدير ب‏(‏الأستاذية‏)‏ لأن هذا لا علاقة له بإرادته أو رغباته‏.‏ هنا‏..‏وهنا تحديدا يكمن السر الأعظم في تفرد د‏.‏ محمد سيد محمد وتميزه العلمي والتعليمي والبحثي والتربوي والأخلاقي والإنساني والمهني‏,‏ ونجاحه في أن يكون صاحب مدرسة متميزة في الدراسات الإعلامية وفي أن يحظي بمكانة خاصة عند تلاميذه الذين ارتبطوا به وأحبوه وعانوا من ألم الفراق وعاشوا احساسا بفراغ كبير إبان رحيله‏.‏
من أهم ما تلاحظه في النموذج التعليمي والتربوي عند أستاذنا حرصه علي أن يقدم القدوة الحسنة للزملاء والأجيال التالية من الطلاب والباحثين‏.‏
فقد ارتبط تاريخه بأدب جم في معاملة الأجيال‏,‏ وصون كبير لكرامة أبنائه من الباحثين‏,‏ وتقدير خاص لقدراتهم ومواهبهم‏,‏ وضمان لحرياتهم في القول والتعبير والكتابة‏,‏ وايقاظ لهممهم في البحث والكتابة‏,‏ واحترام حقهم في الاستقلال الأكاديمي والفكري واستثمار كل ماهو إيجابي في شخصية طلابه‏,‏ والاحتفال بإبداعهم وتميزهم‏.‏
وكان دائما الفارس الذي لاينازل من هم دونه في الوظيفة أو الرتبة أو الموقع‏,‏ ويؤمن بأن الندية شرط للمنازلة ولذا لم يتحد معيدا أو مدرسا مساعدا أو مدرسا أو أستاذا مساعدا‏,‏ ولم يضيق علي أحد من هؤلاء‏,‏ ولم يهددهم بسلطاته أو يلاحقهم بلوائحه أو يحاربهم في لقمة عيشهم‏,‏ أو يبتزهم بتقاريره‏.‏
في النموذج التعليمي والتربوي للدكتور محمد سيد محمد حضور مكثف لمفاهيم‏(‏ الرسالة‏)‏ و‏(‏الرعاية‏)‏ والمسئولية والأبوة والقرب النفسي الحميمية‏)‏ فنحن بصدد عالم جليل يدرك أنه صاحب رسالة كبيرة وهي البناء السليم للأجيال‏,‏ وهذه المهمة يتعين عليه أن يتقنها وأن يمارسها بأبوة حانية حاسمة‏.‏ وهو مسئول أمام الله والوطن والجامعة وضميره عن كل ما يفعله في علاقته بالطلاب والباحثين تماما كما لو انه مسئول عن أسرته‏.‏ لقد سيطر علي أستاذنا الاعتقاد بمسئوليته الكاملة عن طلابه وكان لهذا أثره الكبير في صياغة معالم العلاقة بينه وبين تلاميذه من الطلاب والباحثين فرأيناه‏(‏ راعيا‏)‏ ورأيناه‏(‏ محاورا‏)‏ ورأيناه‏(‏ ناصحا موجها‏)‏ وعهدناه‏(‏ مشاركا أمينا‏)‏ يملك شجاعة الاعتراف بأنه مسئول عن كل ما انتهي إليه طلابه في أطروحاتهم من معالجات ونتائج‏.‏ علي هذا النحو أمضي أستاذنا حياته ليجسد ذلك النموذج المبهر علي المستوي التعليمي والتربوي‏,‏ فمن أين جاء بهذا كله حتي صار تلاميذه يتحدثون عن ندرة معدنه البشري وخامته الإنسانية؟‏!‏
في البيئة التي ولد فيها أبو عبد الرحمن تجد السر الأول لتميزه‏.‏ ولد الدكتور محمد سيد محمد في أسيوط‏(8‏ ديسمبر‏1936)‏ ونشأ وترعرع وعاش الجانب الأكبر من صباه بين‏(‏ منقباد‏)‏ قرية والده و‏(‏بني غالب‏)‏ قرية والدته‏,‏ يرحمهما الله‏,‏ وانهي دراسته الثانوية‏(‏ الثقافة‏)‏ ليسافر بعد ذلك إلي القاهرة ويلتحق بقسم الصحافة بكلية الآداب‏.‏ هناك في الصعيد بأبهي تجلياته الحضارية‏,‏ وهنا حجر الأساس‏,‏ والنبع الرقراق ل‏(‏ أصالة‏)‏ أستاذنا‏,‏ حيث يشب الصبي ويستيقظ وعيه علي تراث مضيء لعمالقة ارتبط تاريخهم بالعطاء والتفاني في حب الوطن‏,‏ والسعي الدءوب لخير البشر‏,‏ والاستعداد للتضحية والتنازل في سبيل الغير‏.‏ ويتعلم أن جمال المرء في رقي الأخلاق وسمو الشمائل ونزاهة الضمير واحترام الحقوق ونظافة اليد ونصرة الفقير ونجدة المظلوم ومساندة الضعيف وإدانة الظالم والأخذ بيد الصغير‏.‏ ويتحرر من آفات التربية في مدن الأسمنت المسلح‏,‏ فيتربي علي أن سيادة المرء في قومه لا تعني أبدا التسلط عليهم وإنما تحتم عليه أن يكون لهم خادما‏,‏ وأن القوة ليست في الإيذاء وإنما في الاحتضان والود والألفة والاحترام‏,‏ وان إدارة شئون الجماعة لا تتم عبر الجبر والقسر والتهديد والاستغلال والابتزاز والإكراه‏,‏ وإنما تتطلب رؤية يؤمنون بها‏,‏ وشخصا أمينا صادقا يثقون فيه ويطمئنون إليه وهم يسيرون معه إلي الغايات والأهداف المرجوة‏.‏
أما السر الأعظم الثاني لتميز النموذج التعليمي والتربوي لأستاذنا الدكتور محمد سيد محمد فيكمن في ثقافته الإسلامية العميقة‏.‏ مثلما كانت له قدم راسخة في أرضية الدراسات الإعلامية فإن قدمه الأخري قد امتدت لتطأ بثبات أرضية الفكر الإسلامي‏.‏ وعبر الارتياد المستمر والمكثف لهذه الأرض ألم أستاذنا بعلوم الشريعة الإسلامية وصار علي دراية كبري بعلوم القرآن الكريم وعلوم السنة النبوية وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وأسباب اختلاف الفقهاء وعلم التوحيد‏(‏ الكلام‏).‏ ومن هذه الأرضية توقف أستاذنا كثيرا أمام الرؤية الإسلامية لمفهوم‏(‏ الأمانة‏)‏ ولقد لمسنا بأنفسنا كيف تعامل أستاذنا مع طلابه من منطلق وعيه الشديد بمفهوم الأمانة في القرآن والسنة‏,‏ وكيف اعتبر الأستاذية أمانة والتعليم أمانة والتربية أمانة وثقافة الأمة أمانة وإعلامها أمانة لا يقل أهمية عن أمانة حكم الأمة وقيادتها وإدارة شئونها‏.‏ أستاذنا‏:‏ لقد عايشنا أساتذة كثيرين‏,‏ وعانينا كثيرا حين اكتوينا بنيران الغدر والخيانة والتآمر‏,‏ ودفعنا ثمنا باهظا بسبب غياب مرجعية‏(‏ الأمانة والرعاية‏)‏ وما تصورنا يوما أن أخلاقياتهم دون مستوي الموقع الذي يحتلونه والمهام التي يتحملون مسئوليتها؟ وانهمرت الدموع من عيوننا غزيرة من كثرة ما صدمنا في نماذج اعتادت أن تحدثنا عن الحرية والاستقلال الفكري والليبرالية والعدالة الاجتماعية والمساواة والتفتح والاستنارة‏,‏ بعد أن أمسكنا بها وهي تتقدم الصفوف في خيانة هذه الشعارات بلا أدني حياء أو خجل‏!!‏ وحين أسألك‏:‏ أين يقف هؤلاء من النموذج الذي ينبغي أن يكون عليه الأستاذ‏,‏ تجيبني برقي‏:‏ الشجرة واحدة‏,‏ لكن فيها الفروع اثنان‏..‏ فيها العوج والشين‏,‏ وفيها اللي يكون معدول‏!!‏ وتصمت‏,‏ وتتركني أتعلم كيف تكون‏(‏ الاستاذية‏)‏ في الاجابة‏!!‏
آه يا حبيبنا‏!!‏ اليوم نفتقد أصالتك‏,‏ ونفتقد رعايتك‏,‏ ونفتقد رقيك‏,‏ ونفتقد معدنك‏,‏ لقد كنت معنا نعم الأمين الذي تحمل مسئوليته جيدا في الرعاية المثلي للأجيال وصون حقوقها‏,‏ وحماية ثقافة الأمة والذود عن عقيدتها وتراثها‏,‏ وبهذا رزقت بأغلي ما يرزقه الله للعبد‏,‏ ولا يحزن بعده علي أي عرض من الدنيا‏,‏ ما جاء في الحديث‏(‏ أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتكم من الدنيا‏:‏ صدق الحديث‏,‏ وحفظ الأمانة‏,‏ وحسن الخلق‏,‏ وعفة مطعم‏).‏ ومن أجل هذا اجتمعت علي حبك القلوب‏,‏ وأجمعت علي جمالك الإنساني العقول‏,‏ وبكتك الحشود التي عاشت زمنا جميلا وهي تنعم برعايتك وتطمئن إلي حكمتك وتنهل من معين انسانيتك‏,‏ وترتقي بفكرها وذوقها وحسها بفضل وعيك واستنارتك‏,‏ وتشق طريقها ولا تنسي أن الفضل بعد الله للإخلاص في نصيحتك‏.‏
سلام عليك يا استاذنا حيا‏,‏ وسلام عليك راحلا‏,‏ وسلام عليك حتي يوم لقائنا اللقاء الدائم‏.‏
إلي روح أستاذنا
أحببناك‏,‏ وذبنا عشقا في رقي أخلاقك وخصوبة إبداعك وبلاغة تعبيرك وأصالة موقفك ونبل غايتك‏,‏ فقد أحببتنا‏,‏ وأبدعت في حبنا‏,‏ وكنت العاشق الذي يحب تراب الأرض التي نمشي عليها‏,‏ ويهوي البلاد التي جئنا منها‏,‏ ويحن قلبه لرؤية الآباء والأمهات الذين جاءوا بنا إلي الحياة‏.‏
وكنت الصادق الذي لم يكذب علينا يوما والمخلص الذي لا يخادع‏,‏ والأصيل الذي لا يغدر‏,‏ والأمين الذي لا يخون‏,‏ والشجاع الذي لا يجبن‏,‏ والمتفائل الذي لا نري معه إلا الجمال رغم أنف القبح المستشري في جنبات الوطن‏,‏ وصانع الخير الذي يتسامح ولا يؤذي ولا يتآمر‏,‏ والمربي الذي ينشغل بالبناء‏,‏ ويراهن علي الثمار‏,‏ ولا تأخذه الدنايا إلي وعظ لا علاقة له بالفعل‏,‏ أو استبداد يؤكد ضيق أفقه‏,‏ أو ابتزاز يثبت عدم نزاهته‏,‏ أو ظلم ينفي عدالته‏,‏ ويطيح بشرعيته‏,‏ أمينا علي تربية الأجيال‏.‏
وحين ودعتنا بكيناك لأننا فقدنا أستاذا كبيرا وعالما جليلا ومفكرا أصيلا وفقيها مبدعا ومجتهدا‏,‏ وغابت عنا استاذية كانت لنا حصنا منيعا حين سعي غيرك إلي أن يدفننا أحياء‏.‏ اليوم نستدعيك لنقدمك للأجيال نموذجا لا يصح ان يغيب عن الذاكرة ابدا‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.