إبراهيم عيسى: الفكر السلفي معطل للاقتصاد المصري وخطر على الدولة    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 9 مايو في محافظات مصر    "قتلوا مدنيين".. بايدن يعلق على قرار أمريكا وقف تصدير السلاح لإسرائيل    زعيمان بالكونجرس ينتقدان تعليق شحنات مساعدات عسكرية لإسرائيل    مصدر: حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية منفتحون نحو إنجاح الجهود المصرية في وقف إطلاق النار    ملف رياضة مصراوي.. تأبين العامري فاروق.. تأهل ريال مدريد.. وقائمة الزمالك    الزمالك يشكر وزيرا الطيران المدني و الشباب والرياضة لدعم رحلة الفريق إلى المغرب    "دوري مصري ومنافسات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    نقل زوجة شريف رمزي إلى المستشفى بعد تعرضها لوعكة صحية مفاجأة    بعد إصدار قانون التصالح| هذه الأماكن معفاة من تلك الشروط.. فما هي؟    انتخاب أعضاء مجلس أمناء التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي    إعلام فلسطيني: غارة إسرائيلية على حي الصبرة جنوب مدينة غزة شمالي القطاع    التابعي: الزمالك يمكنه حصد الكونفدرالية وأنصح هذا اللاعب بعدم التهور    محافظ الإسكندرية يكرم أبطال سلة الاتحاد عقب فوزهم بكأس مصر    صفقة سوبر على أعتاب الأهلي.. مدرب نهضة بركان السابق يكشف التفاصيل    ميدو يوضح رأيه في اعتراض الزمالك على حكام نهائي الكونفدرالية    إعلام إسرائيلي: تصريح بايدن حول وقف شحنات الأسلحة "زلزال قوي" للعلاقات بين البلدين    نقابة الموسيقيين تنعي كريم عبد العزيز في وفاة والدته    6 طرق لعلاج احتباس الغازات في البطن بدون دواء    تعرف على سعر الفراخ البيضاء والبيض بالأسواق اليوم الخميس 9 مايو 2024    مندوب الجامعة العربية بالأمم المتحدة: 4 دول من أمريكا الجنوبية اعترفت خلال الأسبوع الأخير بدولة فلسطين    رئيس هيئة المحطات النووية يهدي لوزير الكهرباء هدية رمزية من العملات التذكارية    محمد فضل: جوزيه جوميز رفض تدريب الأهلي    نماذج امتحانات الثانوية العامة 2024 بصيغة «PDF» لجميع المواد وضوابط اللجان    إنتل تتوقع تراجع إيراداتها خلال الربع الثاني    موعد إجازة عيد الأضحى 2024 في السعودية: تخطيط لاستمتاع بأوقات العطلة    ارتفاع ضحايا حادث «صحراوي المنيا».. مصرع شخص وإصابة 13 آخرين    العظمى بالقاهرة 36 درجة مئوية.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الخميس 9 مايو 2024    "الفجر" تنشر التقرير الطبي للطالبة "كارولين" ضحية تشويه جسدها داخل مدرسة في فيصل    سواق وعنده 4 أطفال.. شقيق أحمد ضحية حادث عصام صاصا يكشف التفاصيل    أحمد موسى: محدش يقدر يعتدي على أمننا.. ومصر لن تفرط في أي منطقة    عيار 21 الآن بعد الزيادة.. أسعار الذهب بالمصنعية اليوم الخميس 9 مايو بالصاغة (آخر تحديث)    نبيل الحلفاوي يكشف سبب ابتعاد نجله عن التمثيل (تفاصيل)    برج الأسد.. حظك اليوم الخميس 9 مايو: مارس التمارين الرياضية    محمود قاسم ل«البوابة نيوز»: السرب حدث فني تاريخي تناول قضية هامة    توفر مليار دولار سنويًا.. الحكومة تكشف أهمية العمل بجدول تخفيف الأحمال (فيديو)    استشاري مناعة يقدم نصيحة للوقاية من الأعراض الجانبية للقاح استرازينكا    وزير الصحة التونسي يثمن الجهود الإفريقية لمكافحة الأمراض المعدية    وكيل الخطة والموازنة بمجلس النواب: طالبنا الحكومة بعدم فرض أي ضرائب جديدة    بالصور.. «تضامن الدقهلية» تُطلق المرحلة الثانية من مبادرة «وطن بلا إعاقة»    التحالف الوطنى يقدم خدمات بأكثر من 16 مليار جنيه خلال عامين    رئيس جامعة القناة يشهد المؤتمر السنوي للبحوث الطلابية لكلية طب «الإسماعيلية الجديدة الأهلية»    وزير الخارجية العراقي: العراق حريص على حماية وتطوير العلاقات مع الدول الأخرى على أساس المصالح المشتركة    «زووم إفريقيا» في حلقة خاصة من قلب جامبيا على قناة CBC.. اليوم    عبد المجيد عبد الله يبدأ أولى حفلاته الثلاثة في الكويت.. الليلة    مستشهدا بواقعة على صفحة الأهلي.. إبراهيم عيسى: لم نتخلص من التسلف والتخلف الفكري    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لنا في كل أمر يسراً وفي كل رزق بركة    دعاء الليلة الأولى من ذي القعدة الآن لمن أصابه كرب.. ب5 كلمات تنتهي معاناتك    رئيس لجنة الثقافة: الموقف المصرى من غزة متسق تماما مع الرؤية الشعبية    محافظ الإسكندرية يشيد بدور الصحافة القومية في التصدي للشائعات المغرضة    طالب صيدلة يدهس شابا أعلى المحور في الشيخ زايد    متحدث الصحة يعلق على سحب لقاحات أسترازينيكا من جميع أنحاء العالم.. فيديو    الكشف على 1209 أشخاص في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    أيهما أفضل حج الفريضة أم رعاية الأم المريضة؟.. «الإفتاء» توضح    رئيس«كفر الشيخ» يستقبل لجنة تعيين أعضاء تدريس الإيطالية بكلية الألسن    أول أيام شهر ذي القعدة غدا.. و«الإفتاء» تحسم جدل صيامه    بالفيديو.. هل تدريج الشعر حرام؟ أمين الفتوى يكشف مفاجأة    حزب العدل: مستمرون في تجميد عضويتنا بالحركة المدنية.. ولم نحضر اجتماع اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الذكري الأولي لوفاه د‏.‏ محمد سيد محمد
أستاذ الجامعة عندما يشد أزر المبدعين‏..‏ ويقدم الأسوةالحسنه للحالمين

في العشرين من ديسمبر العام‏2010‏ توفي العالم الجليل أستاذنا الدكتور محمد سيد محمد استاذ الصحافة وعلوم الإعلام والاتصال الجماهيري بكلية الإعلام جامعة القاهرة.
وكان رحيله خسارة فادحة للجامعة المصرية والتعليم العالي والدراسات الإعلامية في الأمة العربية والإسلامية‏,‏ ومصابا جللا عند زملائه وتلاميذه الذين وقفوا علي اسرار تميزه العلمي وتفرده الأخلاقي والإنساني بمنظومة من القيم المثالية النادرة التي جعلت منه بجدارة صاحب مدرسة علمية عامرة تجمع بين خصوبة المنطلقات‏,‏ وكفاءة المنهج‏,‏ وصلاحية الأداة‏,‏ ونزاهة الضمير‏,‏ وأمانة الرصد‏,‏ ودقة التسجيل‏,‏ وبلاغة التعبير‏,‏ وعمق التحليل‏,‏ وموضوعية الاستخلاص‏,‏ وأصالة القصد‏,‏ ونبل الغاية وهي المدرسة التي ابهرت تلاميذه في مصر كما في بقية الأقطار العربية‏,‏ وأسرعت اليها حشود من الباحثين الذين وجدوا أنفسهم معه بحكم جاذبية النموذج العلمي والأخلاقي والإنساني الذي جسده الراحل الكبير طوال سني حياته‏.‏
لم أسمع استاذنا يوما يدعي انه ثوري أو راديكالي أو مناضل أو حتي مصلح‏,‏ ولم يزعم ذلك فيما انتج من اسهامات علمية منذ الإعلام والتنمية‏(1978)‏ و الصحافة سلطة رابعة‏..‏ كيف؟‏(1979)‏ و المؤسسة الصحفية‏(1979)‏ والزيات والرسالة‏(1982)‏ و هيكل والسياسة الأسبوعية‏1982‏ وصناعة الكتاب ونشره‏(1983)‏ و المسئولية الإعلامية في الإسلام‏(1983)‏ والإعلام واللغة‏(1984)‏ و الصحافة بين التاريخ والأدب‏(1985)‏ والغزو الثقافي والمجتمع العربي المعاصر‏(1996)‏ والمصداقية في الاعلام العربي‏(2006)‏ لكنك حين تقرأ أيا من هذه الكتب يستقر يقينك بأنك بصدد‏(‏ عالم قدير‏)‏ في‏(‏ استراتيجيات صنع التغيير‏)‏ وحين تقف مليا أمام انتاجه العلمي والفكري تكتشف أنك بصدد‏(‏ مفكر وطني‏)‏ من طراز فريد‏,‏ ومن الأرضية الوطنية يلقي أضواء كاشفة علي غياب العدالة في التغطية الإعلامية نتيجة التركيز علي العاصمة وتجاهل الأقاليم‏,‏ والولع بمتابعة أخبار المسئولين وتجاهل أحوال المواطنين‏,‏ والتركيز علي نجوم الفن والرياضة وعدم الاهتمام بالقوي المنتجة التي تنجز تنمية المجتمع وتصنع نهضته‏.‏
بين الباحثين وعلماء الصحافة والاتصال الجماهيري‏,‏ احتل استاذنا موقع‏(‏ الفقيه الفيلسوف‏),‏ فلم ينشغل بمشكلات الممارسة قدر انشغاله بالمبادئ التي يحتكم اليها الإعلاميون في حركتهم وتمثل مرجعيتهم في تغطية قضايا المجتمع وفي مواجهة الشكوي المتصاعدة من تدني مستوي الإعلاميين وعدم درايتهم أو إجادتهم للقدرات والمهارات المطلوبة للعمل الإعلامي‏,‏ اتجه للتركيز علي الإطار العقدي والقيمي لنظم تربية الإعلاميين وتأهيلهم والبرامج الحاكمة لتدريبهم والأهداف المطلوب انجازها‏,‏ كان دائم التساؤل عن‏(‏ مضمون‏)‏ رسائل الماجستير والدكتوراة‏,‏ ومهموما بالبحث فيها عن‏(‏ الفكر‏)‏ الذي يمكن ان يعكس مدي فهم الطالب للهدف من البحث العلمي‏,‏ وجدوي هذه الدراسات‏,‏ والقيمة التي يمكن للمجتمع ان يكتسبها من ورائها‏,‏ ثم مدي جدية الجامعة نفسها في رعاية المفهوم السليم للبحث العلمي واستراتيجياته وغاياته‏.‏
كانت الخصوبة الفكرية هي المدخل الذي أثار اهتمامنا بشخصية الدكتور محمد سيد محمد استاذا واستاذية‏,‏ فالجامعة المصرية تزخر بالكثير من الأساتذة ب‏(‏ الرتبة‏),‏ والقليل من الأساتذة‏(‏ الأساتذة‏)‏ ب‏(‏ العلم‏)‏ و القدرة‏)‏
وهذا معناه أننا بصدد كثيرين ممن حصلوا علي درجة‏(‏ أستاذ بقرار‏)‏ ولكن من دون أن يصلوا بعد الي مستوي‏(‏ الأستاذية‏)‏ التي يستحيل علي أي لجنة أو أي قرارات تصدر عنها أن تجعل تحققها أمرا مضمونا في هذا الشخص أو ذاك من أولئك الذين قررت أن تجعلهم أساتذة‏.‏
في ظل هذا الواقع‏,‏ عشنا نحن المعيدين والمدرسين المساعدين منذ مطلع الثمانينيات هموما ثقيلة أرقت حياتنا وعكرت صفوها وفتحت علينا نيرانا تساقطت فوق رءوسنا‏,‏ ومن كثرة ما انهال علينا من شظايا لم نكن ندري من أي صوب تجيء‏!!‏ وإذا كان دخان هذه النيران قد أصابنا كثيرا بالاختناق‏,‏ فإن شظاياها أدمتنا ولم يبق جزء من أجسادنا إلا وتري فيه أثار هذه الدماء‏.‏
احتجنا الي وقت لندرك أن هذا طبيعي جدا في المؤسسة الجامعية المصرية التي تسيطر علي علاقات العمل فيها روح انتقامية تتيح للكبار ممن صاروا أساتذة أن يمثلوا بجثث المعيدين والمدرسين المساعدين من دون أن يجدوا من يراجعهم أو يخبرهم بأن هذا حرام‏.‏
كانت مأساتنا أكبر من أن توصف‏,‏ وكدنا أن نموت من كثرة الاختناق وألم الجروح الغائرة لولا أن الله أرسل إلينا هذا الرجل‏(‏ الأستاذ حقا‏)‏ ليصد عنا غارات‏(‏ التتار‏)‏ من طغاة الجامعة ويواجه أقرانه من أكثر خلق الله استبدادا وتسلطا ممن يستمتعون بتعذيب الأجيال التالية التي تصغرهم عمرا ودرجة ومنصبا‏,‏ وممن يجاهرون بحبهم للظلم ويقفون علي الملأ ليعلنوا دونما حرج أو حياء أو خشية إن متعتهم لاتتحقق إلا عندما ينامون ليلهم ظالمين في واحد من أكثر المشاهد إرهابا وترويعا لجيل من المعيدين والمدرسين المساعدين يؤمن بأن الجامعة قلعة من قلاع العلم والفكر التي تزدهر بالحرية وتتقدم بالعداء للتسلط والاستبداد‏,‏ وأن أساتذتها ينبغي أن يكونوا نماذج مضيئة لمواطنين صالحين‏,‏ ونفوسا سوية طاهرة نقية‏,‏ وقلوبا رحيمة‏,‏ وعقولا تعي أصول التواصل ومسئوليات التربية وتقاليد الرعاية وسنن الله في التغيير والتداول‏.‏
من هنا تنبهنا الي مفهوم الأستاذية وأدركنا أن كثيرين في الجامعة المصرية ممن صاروا أساتذة يفتقرون الي‏(‏ الأستاذية‏)‏ وأن هذا يضرب شرعيتهم في مقتل والأستاذية التي نقصدها‏(‏ مكانة‏)‏ مميزة يحظي بها‏(‏ الأستاذ‏)‏ لدي جمهوره من الطلاب والباحثين والقراء‏.‏
وهؤلاء جميعا هم وحدهم الذين يقرون ب‏(‏ أستاذيته‏)‏ طواعية‏,‏ وبكامل إرادتهم‏,‏ ولاينطلي عليهم أن يذكرهم هذا أوتلك في كل وقت وحين بأن يتنبهوا إلي أنه‏(‏ أستاذ‏)‏ ولا يمكن لأحد أن يجبرهم علي تبني غير الذي يرونه جديرا بأن يخلعوه علي أستاذهم‏.‏
وهذا يتطلب أن يدرك عضو هيئة التدريس بالجامعة أنه يملك الإرادة الذاتية ليكون‏(‏ أستاذا‏)‏ وفق نظم الترقية المعتمدة بالجامعة‏,‏ لكنه لايملك حقا في الإدعاء بأنه جدير ب‏(‏الأستاذية‏)‏ لأن هذا لا علاقة له بإرادته أو رغباته‏.‏ هنا‏..‏وهنا تحديدا يكمن السر الأعظم في تفرد د‏.‏ محمد سيد محمد وتميزه العلمي والتعليمي والبحثي والتربوي والأخلاقي والإنساني والمهني‏,‏ ونجاحه في أن يكون صاحب مدرسة متميزة في الدراسات الإعلامية وفي أن يحظي بمكانة خاصة عند تلاميذه الذين ارتبطوا به وأحبوه وعانوا من ألم الفراق وعاشوا احساسا بفراغ كبير إبان رحيله‏.‏
من أهم ما تلاحظه في النموذج التعليمي والتربوي عند أستاذنا حرصه علي أن يقدم القدوة الحسنة للزملاء والأجيال التالية من الطلاب والباحثين‏.‏
فقد ارتبط تاريخه بأدب جم في معاملة الأجيال‏,‏ وصون كبير لكرامة أبنائه من الباحثين‏,‏ وتقدير خاص لقدراتهم ومواهبهم‏,‏ وضمان لحرياتهم في القول والتعبير والكتابة‏,‏ وايقاظ لهممهم في البحث والكتابة‏,‏ واحترام حقهم في الاستقلال الأكاديمي والفكري واستثمار كل ماهو إيجابي في شخصية طلابه‏,‏ والاحتفال بإبداعهم وتميزهم‏.‏
وكان دائما الفارس الذي لاينازل من هم دونه في الوظيفة أو الرتبة أو الموقع‏,‏ ويؤمن بأن الندية شرط للمنازلة ولذا لم يتحد معيدا أو مدرسا مساعدا أو مدرسا أو أستاذا مساعدا‏,‏ ولم يضيق علي أحد من هؤلاء‏,‏ ولم يهددهم بسلطاته أو يلاحقهم بلوائحه أو يحاربهم في لقمة عيشهم‏,‏ أو يبتزهم بتقاريره‏.‏
في النموذج التعليمي والتربوي للدكتور محمد سيد محمد حضور مكثف لمفاهيم‏(‏ الرسالة‏)‏ و‏(‏الرعاية‏)‏ والمسئولية والأبوة والقرب النفسي الحميمية‏)‏ فنحن بصدد عالم جليل يدرك أنه صاحب رسالة كبيرة وهي البناء السليم للأجيال‏,‏ وهذه المهمة يتعين عليه أن يتقنها وأن يمارسها بأبوة حانية حاسمة‏.‏ وهو مسئول أمام الله والوطن والجامعة وضميره عن كل ما يفعله في علاقته بالطلاب والباحثين تماما كما لو انه مسئول عن أسرته‏.‏ لقد سيطر علي أستاذنا الاعتقاد بمسئوليته الكاملة عن طلابه وكان لهذا أثره الكبير في صياغة معالم العلاقة بينه وبين تلاميذه من الطلاب والباحثين فرأيناه‏(‏ راعيا‏)‏ ورأيناه‏(‏ محاورا‏)‏ ورأيناه‏(‏ ناصحا موجها‏)‏ وعهدناه‏(‏ مشاركا أمينا‏)‏ يملك شجاعة الاعتراف بأنه مسئول عن كل ما انتهي إليه طلابه في أطروحاتهم من معالجات ونتائج‏.‏ علي هذا النحو أمضي أستاذنا حياته ليجسد ذلك النموذج المبهر علي المستوي التعليمي والتربوي‏,‏ فمن أين جاء بهذا كله حتي صار تلاميذه يتحدثون عن ندرة معدنه البشري وخامته الإنسانية؟‏!‏
في البيئة التي ولد فيها أبو عبد الرحمن تجد السر الأول لتميزه‏.‏ ولد الدكتور محمد سيد محمد في أسيوط‏(8‏ ديسمبر‏1936)‏ ونشأ وترعرع وعاش الجانب الأكبر من صباه بين‏(‏ منقباد‏)‏ قرية والده و‏(‏بني غالب‏)‏ قرية والدته‏,‏ يرحمهما الله‏,‏ وانهي دراسته الثانوية‏(‏ الثقافة‏)‏ ليسافر بعد ذلك إلي القاهرة ويلتحق بقسم الصحافة بكلية الآداب‏.‏ هناك في الصعيد بأبهي تجلياته الحضارية‏,‏ وهنا حجر الأساس‏,‏ والنبع الرقراق ل‏(‏ أصالة‏)‏ أستاذنا‏,‏ حيث يشب الصبي ويستيقظ وعيه علي تراث مضيء لعمالقة ارتبط تاريخهم بالعطاء والتفاني في حب الوطن‏,‏ والسعي الدءوب لخير البشر‏,‏ والاستعداد للتضحية والتنازل في سبيل الغير‏.‏ ويتعلم أن جمال المرء في رقي الأخلاق وسمو الشمائل ونزاهة الضمير واحترام الحقوق ونظافة اليد ونصرة الفقير ونجدة المظلوم ومساندة الضعيف وإدانة الظالم والأخذ بيد الصغير‏.‏ ويتحرر من آفات التربية في مدن الأسمنت المسلح‏,‏ فيتربي علي أن سيادة المرء في قومه لا تعني أبدا التسلط عليهم وإنما تحتم عليه أن يكون لهم خادما‏,‏ وأن القوة ليست في الإيذاء وإنما في الاحتضان والود والألفة والاحترام‏,‏ وان إدارة شئون الجماعة لا تتم عبر الجبر والقسر والتهديد والاستغلال والابتزاز والإكراه‏,‏ وإنما تتطلب رؤية يؤمنون بها‏,‏ وشخصا أمينا صادقا يثقون فيه ويطمئنون إليه وهم يسيرون معه إلي الغايات والأهداف المرجوة‏.‏
أما السر الأعظم الثاني لتميز النموذج التعليمي والتربوي لأستاذنا الدكتور محمد سيد محمد فيكمن في ثقافته الإسلامية العميقة‏.‏ مثلما كانت له قدم راسخة في أرضية الدراسات الإعلامية فإن قدمه الأخري قد امتدت لتطأ بثبات أرضية الفكر الإسلامي‏.‏ وعبر الارتياد المستمر والمكثف لهذه الأرض ألم أستاذنا بعلوم الشريعة الإسلامية وصار علي دراية كبري بعلوم القرآن الكريم وعلوم السنة النبوية وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وأسباب اختلاف الفقهاء وعلم التوحيد‏(‏ الكلام‏).‏ ومن هذه الأرضية توقف أستاذنا كثيرا أمام الرؤية الإسلامية لمفهوم‏(‏ الأمانة‏)‏ ولقد لمسنا بأنفسنا كيف تعامل أستاذنا مع طلابه من منطلق وعيه الشديد بمفهوم الأمانة في القرآن والسنة‏,‏ وكيف اعتبر الأستاذية أمانة والتعليم أمانة والتربية أمانة وثقافة الأمة أمانة وإعلامها أمانة لا يقل أهمية عن أمانة حكم الأمة وقيادتها وإدارة شئونها‏.‏ أستاذنا‏:‏ لقد عايشنا أساتذة كثيرين‏,‏ وعانينا كثيرا حين اكتوينا بنيران الغدر والخيانة والتآمر‏,‏ ودفعنا ثمنا باهظا بسبب غياب مرجعية‏(‏ الأمانة والرعاية‏)‏ وما تصورنا يوما أن أخلاقياتهم دون مستوي الموقع الذي يحتلونه والمهام التي يتحملون مسئوليتها؟ وانهمرت الدموع من عيوننا غزيرة من كثرة ما صدمنا في نماذج اعتادت أن تحدثنا عن الحرية والاستقلال الفكري والليبرالية والعدالة الاجتماعية والمساواة والتفتح والاستنارة‏,‏ بعد أن أمسكنا بها وهي تتقدم الصفوف في خيانة هذه الشعارات بلا أدني حياء أو خجل‏!!‏ وحين أسألك‏:‏ أين يقف هؤلاء من النموذج الذي ينبغي أن يكون عليه الأستاذ‏,‏ تجيبني برقي‏:‏ الشجرة واحدة‏,‏ لكن فيها الفروع اثنان‏..‏ فيها العوج والشين‏,‏ وفيها اللي يكون معدول‏!!‏ وتصمت‏,‏ وتتركني أتعلم كيف تكون‏(‏ الاستاذية‏)‏ في الاجابة‏!!‏
آه يا حبيبنا‏!!‏ اليوم نفتقد أصالتك‏,‏ ونفتقد رعايتك‏,‏ ونفتقد رقيك‏,‏ ونفتقد معدنك‏,‏ لقد كنت معنا نعم الأمين الذي تحمل مسئوليته جيدا في الرعاية المثلي للأجيال وصون حقوقها‏,‏ وحماية ثقافة الأمة والذود عن عقيدتها وتراثها‏,‏ وبهذا رزقت بأغلي ما يرزقه الله للعبد‏,‏ ولا يحزن بعده علي أي عرض من الدنيا‏,‏ ما جاء في الحديث‏(‏ أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتكم من الدنيا‏:‏ صدق الحديث‏,‏ وحفظ الأمانة‏,‏ وحسن الخلق‏,‏ وعفة مطعم‏).‏ ومن أجل هذا اجتمعت علي حبك القلوب‏,‏ وأجمعت علي جمالك الإنساني العقول‏,‏ وبكتك الحشود التي عاشت زمنا جميلا وهي تنعم برعايتك وتطمئن إلي حكمتك وتنهل من معين انسانيتك‏,‏ وترتقي بفكرها وذوقها وحسها بفضل وعيك واستنارتك‏,‏ وتشق طريقها ولا تنسي أن الفضل بعد الله للإخلاص في نصيحتك‏.‏
سلام عليك يا استاذنا حيا‏,‏ وسلام عليك راحلا‏,‏ وسلام عليك حتي يوم لقائنا اللقاء الدائم‏.‏
إلي روح أستاذنا
أحببناك‏,‏ وذبنا عشقا في رقي أخلاقك وخصوبة إبداعك وبلاغة تعبيرك وأصالة موقفك ونبل غايتك‏,‏ فقد أحببتنا‏,‏ وأبدعت في حبنا‏,‏ وكنت العاشق الذي يحب تراب الأرض التي نمشي عليها‏,‏ ويهوي البلاد التي جئنا منها‏,‏ ويحن قلبه لرؤية الآباء والأمهات الذين جاءوا بنا إلي الحياة‏.‏
وكنت الصادق الذي لم يكذب علينا يوما والمخلص الذي لا يخادع‏,‏ والأصيل الذي لا يغدر‏,‏ والأمين الذي لا يخون‏,‏ والشجاع الذي لا يجبن‏,‏ والمتفائل الذي لا نري معه إلا الجمال رغم أنف القبح المستشري في جنبات الوطن‏,‏ وصانع الخير الذي يتسامح ولا يؤذي ولا يتآمر‏,‏ والمربي الذي ينشغل بالبناء‏,‏ ويراهن علي الثمار‏,‏ ولا تأخذه الدنايا إلي وعظ لا علاقة له بالفعل‏,‏ أو استبداد يؤكد ضيق أفقه‏,‏ أو ابتزاز يثبت عدم نزاهته‏,‏ أو ظلم ينفي عدالته‏,‏ ويطيح بشرعيته‏,‏ أمينا علي تربية الأجيال‏.‏
وحين ودعتنا بكيناك لأننا فقدنا أستاذا كبيرا وعالما جليلا ومفكرا أصيلا وفقيها مبدعا ومجتهدا‏,‏ وغابت عنا استاذية كانت لنا حصنا منيعا حين سعي غيرك إلي أن يدفننا أحياء‏.‏ اليوم نستدعيك لنقدمك للأجيال نموذجا لا يصح ان يغيب عن الذاكرة ابدا‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.