الي أمينة رشيد.. هذا هو عنوان الكتاب الذي بادر قسم اللغة الفرنسية باداب القاهرة باهدائه لواحدة من اكثر النساء المصريات اخلاصا لاختياراتها ومواقفها, واشدهن حرصا علي الابتعاد عن ضجيج الاعلام. الكتاب الذي جمعت مادته العلمي وقدمت له كل من رنده صبري ورانيا فتحي وصدر عن دار العين للنشر يضم الكثير والكثير تكريما لأمينة رشيد الناقدة والاستاذة الجامعية والكاتبة وصاحبة الاختيارات الصعبة دائما, غير ان ما يلفت النظر ان الكتاب الضخم يضم63 صفحة باللغة العربية فقط, بينما يضم324 صفحة باللغتين الفرنسية والانجليزية, وهو ما لا غبار عليه لو كان منشورا نشرا اكاديميا للمتخصصين والمشتغلين بالدراسة الادبية, لكن نشره لغير المتخصصين يحتاج لاعداد مختلف بطبيعة الحال للقارئ العام, لاسيما وان الدار التي اصدرت الكتاب دار نشر عامة. ومع هذا فان المبادرة التكريمية لامينة رشيد تستحق التحية, لان أمينة رشيد طراز خاص من النساء المصريات, والمرور السريع علي لمحات من سيرتها الذاتية يؤكد هذا الامر, فهي اولا حفيدة اسماعيل صدقي رئيس الوزراء والديكتاتور الشهير في العهد الملكي, وعلي الرغم من ذلك ارتبطت بنت الاكابر بالحركة اليسارية السرية منذ كان عمرها17 عاما, وتخرجت في قسم اللغة الفرنسية بكلية الاداب جامعة القاهرة عام1958, وبين عامي1962 و1968 حصلت علي بعثة من جامعة القاهرة للحصول علي درجة الدكتوراه من السوربون, وبين عامي1970 و1978 اختيرت لواحد من ارفع المناصب العلمية في فرنسا في المركز القومي للبحث العلمي. وفي العام نفسه حزمت أمرها علي العودة الي مصر وتركت هذا المنصب الرفيع ومغادرة فرنسا والعمل مدرس في قسم اللغة الفرنسية باداب القاهرة. واذا كانت اعمالها المنشورة بالعربية والفرنسية تأليفا وترجمة تعد قليلة, إلا أن دورها الاكاديمي والبحثي واشرافها علي رسائل الدكتوراه والماجستير وتنظيمها ومشاركتها للمؤتمرات والندوات والحلقات البحثية هائل بكل المقاييس, هذا فضلا عن دورها في العمل العام سواء في لجنة الدفاع عن الثقافة القومية منذ عام1978, ثم اعتقالها عام1981 في حملة سبتمبر, وفي العام نفسه اشتركت في تأسيس مجلة خطوة, وكانت دائما في مواقفها منحازة لحرية التعبير وسائر الحريات. أما أعمالها غير المنشورة في الدوريات أو المؤتمرات أو الندوات بالعربية والفرنسية, فلم تنشر بعد, وأظن ان امينة لفرط تواضعها فضلت دائما ان تعطي كل اهتمامها للعمل الاكاديمي الميداني ان صح التعبير ويفيد اجيالا من الباحثين والنقاد. من جانب آخر ضمت الكتابات المنشورة بالعربية في الكتاب التكريمي شهادة لزوجها الصديق الناقد د. سيد البحراوي, تتميز بالدفء والصدق والتقاط اعمق سماتها وهي القدرة علي فهم الآخرين فهما عميقا, والاحساس بهم ايضا. ويضيف دقة هذه القدرة بالتأكيد أمر ايجابي مهم, غير أنه عندها قد يصبح امرا سلبيا حين يقترن بقيمة آخري هي التسامح الناتج عن فهم الضعف البشري الذي يصل الي حد القبول به حتي لو ادي الي ان يؤذيها هي شخصيا. وكان سيد وامينة قد تزوجا عام1981 بعد ان تمت خطبتهما في السجن اثناء اعتقال أمينة في حملة سبتمبر من العام نفسه, ويلمس سيد في شهادته بعمق كيف ان مشاريع امينة البحثية تتكاثر وتتعدد ولكنها لاتنتهي الي غايتها, لان رضاها بما كتبت لايحدث ابدا, ومن ثم يظل البحث غاية دائمة في حد ذاته. وكم من مشاريع لكتب مكتملة أو شبه مكتملة, لم تصدر مثل كتاباتها عن الأرض وفي الأدب المقارن أو السيرة الذاتية وغيرها. وماصدر لها من كتب( كتابان) ودراسات( حوالي العشرين) لا يمثل واحدا من الألف مما كتبت ولم تنشر. وتستكمل الروائية مي التلمساني في شهادتها ذلك الجوهر الانساني لأمينة رشيد كتبت: عندما فقدت ابنتي يوم ولادتها جاءت أمينة بصحبة سيد وكانا من أوائل الأصدقاء الذين سمحت لهم بزيارتي. كنت أعرف وكانا يعرفان أن الحزن خيط يمتد بيننا وكان باستطاعتي أن أبكي في حضورهما بلا خجل وتضيف التلمساني أن أمينة تستمع كثيرا وتتكلم قليلا. وكعادتها ينصت لها الناس. نضال أمينة من أجل ماتؤمن به من أفكار نضال بلا ضجيج, بلا استعراض, بلا مفاخرة. تراها في فيلم تهاني راشد أربع نساء من مصر, فتعرف أنها في الطريق الي السجن أثناء حملة الاعتقالات التي شنها السادات علي مثقفي مصر قبل موته, تتحدث مع العسكري كأنه قريب وتصيبها غصة حين يناديها ياأختي, فلا فرق بين مسجون وسجان في ظل الظلم, أجمل بورتريه لأمينة تجده بين صديقاتها في هذا الفيلم, نفس الصوت العميق, نفس اللكنة الفرنسية, نفس التفهم لدور كل واحدة منهن, شاهنده, ووداد وصافي ناز. وتنهي شهادتها متأملة صورتها قائلة: تطالعني ابتسامة خجل لا تفارق وجه أمينة, عينان حنونان تطلان من وراء زجاج النظارة وشعر قصير أبيض يعلو جبينها ليذكرني أنها أيضا جدةسعيدة لحفيد تزوره في باريس بانتظام وشغف. وفي السياق ذاته أيضا تلمس الناقدة فريال جبوري غزول في شهادتها بعمق أن واحدة من خصال أمينة التي تنال إعجابها واحترامها هو قدرتها الفذة علي اختيار الأصعب هي القرارات والصمود أمام المألوف والمتوقع. تبتعد أمينة رشيد عن الاستسهال والمتعارف عليه, بل المتواطأ عليه لتسير في طريق آخر قد يكون وعرا لكنه واعد. والتحدي هنا ليس تحديا لمحيطها فحسب, وإنما تحديا ذاتيا فهي تعبيء كل طاقاتها نحو ماتؤمن به. وتضيف أن قرارها الجريء بالاستقالة من المنصب المرموق في باريس حيث كانت تعمل باحثة في المركز القومي للبحوث العلمية الذي نالته بعد منافسة مع أعلام الباحثين فأمينة لم تكن تتطلع الي الارتقاء المهني بل الانساني, وبانحيازها لهموم الغلابة وصلابتها ورقتها أصبحت مثقفة عامة بامتياز, بل وقدوة يجلها المجتمع ويهتدي بها العديد من زملائها وزميلاتها وطلابها وطالباتها. وتكشف د. فريال غزول في شهادتها عن حجم الجهد الخارق الذي بذلته أمينة رشيد في رسالتها للدكتوراة عن أحد مفكري العصر هذا الجهد الذي لم يترجم ولم ينشر حتي بالفرنسية بأنه عمل بحثي موسوعي غير منشور يتجاوز الألف صفحة, وهو ليس بحثا تنظيريا مقطوع الصلة باهتمامات أمينة رشيد بل يتعلق بتأثير العرب علي أوروبا. عن جانب آخر, ومن بين أهم ماضمته الشهادات المنشورة بالعربية في الكتاب شهادة الشاعر الكبير مريد البرغوثي. وتوضح د. رانيا فتحي في تقديمها للكتاب أن أدب الشهادة هو المشروع البحثي الذي تحمست له أمينة رشيد ووجدت فيه بلورة للقضايا التي كرست لها وقتها وجهدها. والحقيقة ان شهادة مريد لا تتصف بالصدق الجارح فقط, بل أيضا تلمس بمشرط الجراح مسألة القضية والهموم العامة وعلاقتها بالشعر والكتابة علي نحو لم أقرأه لدي كاتب آخر, كذلك يمزج مريد بين سيرته الذاتية وحياته الشخصية وبين مشروعه الكتابي بل والوجودي علي نحو لم يتكرر أيضا بالنسبة لي, بل أشعر أنني أعرفه الآن أكثر من أي وقت مضي. يبقي أن أشير الي ضرورة أن يصدر كتاب آخر بالعربية للقاريء العام, فأمينة رشيد تستحق هذا وأكثر منه, ودورها يظل متجددا ويشكل قيمة إنسانية وعلمية كبري.