من قلب ريفنا الجميل, ومن أحضان الطبيعة البكرة, حيث المشاهد الخلابة, والخضرة التي تقر لرؤيتها العيون, وترتاح إليها الأفئدة والأرواح, يخرج علينا صوت شعري أصيل, يتغني بهذه البيئة التي أثرت فيه فجعلته أسيرا لها. يبدع في كل شيء حوله, ذلكم هو الشاعر عبدالسلام محمد هاشم الذي منحه الله موهبة شعرية جعلته لا يكتفي بالكتابة عن بيئته الريفية وجمالها فحسب, وإنما انطلق إلي عالم أرحب, حيث نظم في الأغراض الشعرية المختلفة: الشعر القومي والسياسي والاجتماعي والرومانسي. وديوانه الذي بين أيدينا' الصبر ليه آخر' هو الديوان الثاني لتجربته الإبداعية بعد ديوانه الأول' فتافيت الوجع' وديوانه' الصبر ليه آخر' يقدم فيه الشاعر مجموعة من القصائد المتباينة في الاتجاه والغرض, لكن يربط بينها الحس الإنساني الذي يتميز به الشاعر في معظم قصائد الديوان عن غيره, فهو مهموم بقضايا وطنه وأمته. والمتأمل في هذا الديوان يجد أن الشاعر ركز فيه علي اتجاهين وأكثر من الحديث عنهما: الأول الاتجاه السياسي: حيث نظم فيه ما يقرب من اثنتي عشرة قصيدة منها الصبر له آخر والفيتو والقصاصة وقدسي عربية واصرخ ياشيخ ياسين, الثاني: الاتجاه الرومانسي, حيث نظم فيه الشاعر ما يقرب من عشر قصائد منها: عاشق موت وعاشق ولهان واسمحيلي ونبع الحنان وذكريات ومن شعره القومي قصيدته: حكايتي والحجر التي عالج فيها قضية فلسطين.. فلسطين التي لاتزال قلوبنا تنزف دما علي ما يحدث بها.. يقول فيها: (حكايتي إيه ياعرب..؟! حكايتي إيه يا وطن..؟! ح افضل كتير ماسك حجر واغسل في عارك ياوطن ياعروبة يامسلمين ليه نعسانين حق الديانة والأخوة ليا فين..؟! وأختي البريئة اللي اغتصبها ديب صهاينة حقها فين يحميها مين..؟!) ثم نراه يجأر بصوت ملؤه الحماس وتغلغله العاطفة الصادقة مخاطبا أبناء أمته جميعا: (اسمعوني كلمة واحدة سمعوها للصهاينة اليهود الأرض دية هي أرضي وهي أمي وهي عرضي وفيها قبر وعضم جدي اللي ماتوا يوم فداها في شاتيلا ودير ياسين وفي رام الله وفي جنين وفيها حي أحمد ياسين أيوه حي في قبره حي لوح نفني م الوجود مستحيل ح تكون لغيرنا ومستحيل ح يبقي الأقصي مزار ومعبد لليهود) ومن قصائده السياسية' الصبر ليه آخر' نراه يلجأ إلي الرمز ليعبر عن الحالة المتردية التي وصلت إليها مصر مع حكامها عبر ثلاثين عاما من الفقر والجوع: (بهايمنا ولادة سلالة حلابة و الصغر عللنا ربينا كبرنا وبعد ال ولادة جبنتها والسمنة سرسوبها ولبنها رايح للديابة) ويوالي الشاعر حديثه عن الظلم الذي يتعرض له أبناء المجتمع علي يد حاكمهم الذي زرع في نفوسهم الخوف.. فيقول: (وليه بقي يابا الجوع بيقرصنا ونطاطي للواطي ونسيبه يتفرعن يحلب بهايمنا ياخدها لاولاده إيوه يانور عيني يحلب ويتهني يحلم ويتمني أولاده في الجنة زصله مروضنا يحلب علي كيفه واحنا بنتحنس لشفطة من إيده) لكن شاعرنا لا ينسي في نهاية القصيدة أن يبشر بالنصر فمهما طال الليل فلابد له من نهار يكشف ظلمته.. يقول: (الصبر ليه آخر في دنيا قلابة بكره الفجر يطلع يولد أسد يكبر وتكتر اشباله وتطول مخالبها وزئيرها ح يدوي ويزلزل الغابة يسمعها راح ترحل وحوش أو ديابة ترجع بهايمنا تحلب لأولادنا وكله راح يشبع من خير بهايمنا وولادنا راح تفرح ويعيشوا في سعادة). والمتأمل في هذه القصيدة يري أن الشعراء هم أرهف الناس حسا وأكثرهم استشرافا للمستقبل, فهذه القصيدة نظمها الشاعر منذ سنوات, وها هي ذي نبوءته تتحقق في ثورة الخامس والعشرين من يناير, فتحية لكل شاعر أسهم بإبداعاته في إشعال تلك الثورة المباركة التي خلصت مصر من نظام فاسد جثم علي صدرها ثلاثين عاما. ومن قصائده الاجتماعية التي عالج فيها قضية من أخطر القضايا قصيدته' رسالة محبة' التي عبر فيها عن مدي العلاقة الحميمة التي تجمع بين المسلم والمسيحي علي أرض الكنانة, فهي علاقة قائمة علي المحبة والسلام وأن من يحاول تعكير صفو هذه العلاقة إنما هو عدو لهذا الوطن الذي يضمنا تحت جناحيه.. يقول شاعرنا: (صباح المحبة.. صباح السلام شجرة فروعها صليب وهلال وحاضنة في ضلها' حنا' و'أحمد' و'فاطمة' و'مريم' حبايب كمان ومسلم مسيحي نسيج الكنانة دا واللي يفرق ما بينهم عدو عدو الكنانة عدو السلام) ثم يواصل شاعرنا الحديث عن تلاحم المسلمين مع اخوانهم من المسيحيين فيقول: (جرس الكنيسة وصوت الأدان رموز المحبة في بلد الأمان وآدي الصليب في حضن الهلال واخوة حبايب بقالهم زمان ديانة' محمد' و'عيسي' أخوه ديانة سماحة.. رسالة سماء) ثم ينهي شاعرنا قصيدته بالتوجه إلي أخيه المسيحي ليضع يده في يده ويعلوا فوق الصغائر من أجل هذا الوطن الغالي, ويبدءا معا مرحلة البناء والتشييد, يقول: (ياحنا يامصري يااخويا وحبيبي ماتيجي نداوي قلوبنا الجريحة نعالج سويا نفوسنا المريضة وإيدك في إيدي نعلي البناء ونبني نعمر يعم الرخاء). وأما عر غزليات الشاعر التي أكثر منها في هذا الديوان, فهي قصائد تذوب رقة وعذوبة, وتكشف عن روح رومانسية رقيقة, يقول شاعرنا في قصيدته' عاشق موت': (أسعد لحظة وأنا وياك وأنت جنبي باشتاق ليك ولما ح أبعد يبقي ياويلي نار الفرقة لهيب يكويني بس أنا نفسي تحسي شوية ياواخدة عقلي وقلبي وعمري وأنت شمسي وسعدي وضلي) وفي قصيدته' عاشق ولهان' يقول بألفاظ قريبة سهلة وموسيقي عذبة: (قلب عشته ياناس مش ملكي بس دا غصبن عني ياربي أصارحه ياربي.. أبوح له بحبي واللا أفضل ساكت ومخبي..؟! *** لما يحكي واسمع صوته أحسن بلبل ع الأغصاب عبير خدوده فل وريحان وبلسم يشفي عليل تعبان ولما يمشي ياناس يختال وسحر قوامه كأنه غزال خلا قلبي حن ومال واشكي ياربي لمين الحال قلب عشقته ياناس مش ملكي بس دا غصبن عني ياربي أصارحه ياربي.. أبوح له بحبي واللا أفضل ساكت ومخبي..؟!) ومن قصائده الرائعة في هذا الديوان' بنت الريف' التي وصفها وصفا دقيقا لا يمكن لشاعر أن يصل لهذه المرحلة من الإجادة إلا إذا كان فلاحا حقيقيا من بيئة ريفية حقا, يقول شاعرنا: (أنا بنت الريف من غير تكليف شكلي لطيف لا بحب الموضة ولا التزييف أصحي م النوم علي صوت عصفور فرحان بالنور أصلي الفرض وأقيد النار أدفي الدار) ثم يواصل الشاعر وصف مهام هذه البنت الريفية فيقول علي لسانها: (جدولي مشغول دايما علي طول تلتف حواليا كل الدار صغار وكبار في الصبحية ع الطبلية تلاقي البيض ويا الطعمية وجبنة قريش مع قشطة وعيش وشاي بحليب لكل حبيب وطبق الفول بالزيت معمول والغدا والعشا وجبة وشهية صنع إيديا) لاتكتفي' بنت الريف' بعملها في الدار وإنما ينتقل نشاطها إلي الحقل الذي تراه مملكتها وعشقها فتقول علي لسان شاعرنا الجميل: عبدالسلام هاشم: ( أنا نحلة دؤوبة.. م البيت للغيط زي اللهلوبة.. والآه في حياتي دايما مشطوبة.. تسأل عني زرع الغيط يتمايل ليا لو عديت.. وزهره يضحك ع الأغصان سعيد بوجودي.. دايما فرحان تملي بهمه أنا مشغولة.. يا اما حشيشة غريبة أقلعها.. أو اسقيه المية بايدي دا هو ابني وهو وليدي) تحية لشاعرنا الذي طاف بنا في هذا البستان الماتع, وهذا الديوان الرائع, وننتظر منه الأجمل والأروع في قادم أيامه. أ.د.علي عبداللطيف ناقد أكاديمي