ونحن نواصل محاولة تشخيص مشكلات الإدارة المصرية, التي تكرست اسبابها وتفاقمت آثارها السلبية في عهد النظام البائد, نتناول اليوم مشكلة متجذرة وهي التعميم وتبني النماذج الشمولية. ولكي ندرك طبيعة هذه المشكلة الإدارية ينبغي ان نعرف أن الإدارة الحديثة ترفض النماذج الشمولية وأنه لايوجد نمط إداري أفضل أو تصرف إداري أمثل ينطبق في كل الحالات وعلي كل المؤسسات, وإنما هناك عدة عوامل موقفية تملي علي المدير التصرف الأمثل. ولكن المتابع لحركة وطبيعة الإدارة المصرية وفي ضوء نتائج الدراسات وخبراتنا الاستشارية والمشاهدات اليومية, يجعلنا نقول إن الإدارة المصرية في مجملها تميل إلي تبني وتطبيق مفاهيم الإدارة الكلاسيكية القائمة علي التعميم والنماذج الشمولية, وهكذا ندرك كينونة مشكلة اليوم والتي تتمثل في ابتعاد الإدارة المصرية عن الفكر الإداري الحديث واعتناق وتطبيق مباديء وممارسات الإدارة التقليدية, مما يحدث فجوة تتمثل في انفصام الإدارة المصرية في العموم عن مفاهيم وتطبيقات الإدارة العصرية الحضارية: وهناك مظاهر لهذه المشكلة لا يغفلها المتأمل لواقع الإدارة المصرية ومنها: قانون العاملين المدنيين بالدولة( ق78/47 والذي ينطبق علي ما يزيد علي5 ملايين موظف في كل القطاعات وعلي فئات مهنية مختلفة منها الأطباء والمهندسون والمحامون والمدرسون والفنيون, ومثال آخر هو الهيكل النمطي الواحد الذي يطبق علي كل الجامعات الحكومية, وهناك لائحة طلابية لكل طلاب الجمهورية, وغيرها من بعض نظم الإدارة المحلية التي تطبق علي كل المناطق والمحافظات رغم اختلاف احتياجات ومشاكل المواطنين وتوقعاتهم في كل منطقة, ناهيك عن الممارسات اليومية لكثير من المديرين التي تعالج كل المواقف بطريقة واحدة رغم اختلاف الملابسات والعوامل الموقفية في كل حالة. ومن أسباب هذه المشكلة قيام الإدارة المصرية علي جانب الفن أكثر من الأخذ بالعلم, أي السيادة الطاغية للخبرة الشخصية والاجتهادات الذاتية والمهارات الفردية وتدني الميل نحو الأخذ بمفاهيم وتطبيقات الإدارة العصرية الحديثة, ويرتبط بهذا سبب آخر يتعلق بواقع التعليم الإداري في مصر الذي تشتتت أوصاله وضاعت هويته وتركيز مدارس الإدارة المصرية ومؤسسات التدريب الإداري علي استيراد نماذج جاهزة من هنا وهناك. وقد كانت لمصر تجربة رائدة في أواخر الستينيات من القرن الماضي بظهور جماعة الإدارة العليا علي أيدي نخبة من أساتذة الإدارة الرواد ومعهم مجموعة من المديرين الوطنيين, ولكن ما حدث مع مطلع الثمانينيات من متغيرات وما صاحبها من إعادة هيكلة وخصخصة وتكريس الإدارة المركزية والممارسات القهرية قد أجهض سعي هذه الجماعة للنهوض بالإدارة المصرية. ولمعالجة هذه المشكلة يجب تحقيق التكامل والتنسيق بين ثلاث جهات أساسية هي الجامعات متمثلة في كليات التجارة وإدارة الأعمال( توجيه البحث العلمي نحو تطوير الثقافة الإدارية المصرية وحقن المؤسسات المصرية التي أصابها مرض فقدان المناعة الإداري بالمفاهيم العلمية العصرية), ومراكز التدريب الإداري( تقديم تدريب عصري متطور بتحسين أساليب التدريب وتبسيط المفاهيم العلمية ومعالجتها بطرق تفاعلية), ووزارة التنمية الإدارية( وضع خطط ورسم سياسات طويلة الأجل والحد من الهيمنة المركزية متمثلة في الجهاز المركزي للتنظيم والادارة وهو معوق أكثر منه مطور لترسيخه النماذج الشمولية لمدة60 عاما, وكذلك تركيز وزارة التنمية الإدارية علي مراجعة وتحديث نظم الإدارة المصرية بدلا من التركيز فقط علي الإدارة الالكترونية كأحد إنجازات الحكومة الذكية البائدة)! [email protected]