اصطف الجند في تشكيل سلام سلاح لوداع القائد... دقت الطبول الرتيبة لتعلن رحيل الفارس... سارت الجنازة العسكرية بخطوتها البطيئة بينما توالت لمحات سريعة لتسترجع رحلة العمر التي تشابكت خيوطها بين' دفعتنا' والفريق' حلمي عفيفي' المدثر بعلم مصر. يتداخل العام والخاص في شريط الذكري, تخرجنا في الجامعة صيف1967 م, وكان أقراننا يطلقون علي أنفسهم' دفعة النكسة' في دعابة سوداء تعبر عن جرح غائر لعله ما زال تاركا ندبته حتي اليوم. لم تستسلم الأمة للهزيمة, ضمدت جراحها, وراجعت خططها وتنظيماتها, وسعت لإعادة بناء قواتها المسلحة. تم تكليفنا في سلاح الدفاع الجوي الذي تم إنشاؤه( نوفمبر1967) ليكون القوة الرادعة الرابعة إلي جانب قواتنا البرية والبحرية والجوية التي تدافع عن أرض مصر ومياهها وسمائها. تلقينا تدريبنا الأساسي في مدرسة المدفعية قبل أن تتحول إلي كلية الدفاع الجوي حيث استقبلنا قائدها العميد حلمي عفيفي, وشهدنا أيامها الجهد المبذول لتحقيق تلك النقلة النوعية في إعداد المقاتل المصري, اختياره وتدريبه وتأهيله. * فحين يتعلق الأمر بالاختيار أصبح التحاق خريجي الجامعات بالقوات المسلحة أمرا حتميا استجابة لصحوة تنادي بالارتفاع بالمستوي العلمي والثقافي للجندي المصري, وتطوير قدرته القتالية, وهكذا كلفت دفعتنا من خريجي كليات العلوم والهندسة للالتحاق بالدفاع الجوي لتكون اللبنة الأساسية لإنشاء ذلك السلاح. أما التدريب فقد كان في فرع الصواريخ المضادة للطائرات حيث تلقينا تدريبا تخصصيا دقيقا مكثفا, بل قاسيا في بعض الأحيان, يجمع بين التدريبات العسكرية والدروس الفنية حيث التقينا مجموعة علي أعلي مستوي من العلم والانضباط من القادة والضباط والمعلمين. درسنا علي أيديهم تفصيلات الدوائر الكهربية وتعرفنا علي كيفية التحكم في الصواريخ لكي تعترض الطائرات المغيرة, والتصويب علي المحل المستقبلي للهدف, في تطبيق مثير لعلوم الفيزياء التي درسناها في الجامعة لاستخدامات التحكم عن بعد, وطور هذا التدريب طريقتنا في التفكير والرؤية لأمور القتال بل والحياة. * طال الاهتمام الجوانب النفسية والمعنوية للمقاتل كما حرص علي تنمية الجوانب الفنية, فكان الاعتناء بأمور الراحة والإعاشة.. يلقانا القائد كل حين.. يبث فينا العزيمة, نستشعر في كلماته وقراراته ومعاملاته الإنسان وإن كانت مغلفة بحزم العسكرية وصرامتها. تخرجنا ضباطا مكلفين, وتفرقنا علي التشكيلات القتالية, وتأهبنا لمجابهة آتية لا ريب فيها. تولي اللواء عفيفي قيادة إحدي فرق الدفاع الجوي, وخضنا معه حرب الاستنزاف, التي كسرت حالة اللا سلم واللا حرب واستهدفت غارات سلاح الجو الإسرائيلي المدنيين المصريين( مدرسة بحر البقر, أبو زعبل, وغيرهما) أملا في كسر الإرادة الوطنية وزعزعة الجبهة الداخلية, فالتف الشعب حول قيادته وزادها صمودا, وحين اختالت إسرائيل في1970 م بطائرات الشبح أو الفانتوم الحديثة, وتصورت أنها يمكنها العربدة في سمائنا, تصدت لها صواريخ الدفاع الجوي المصري, فتساقطت الطائرات الإسرائيلية فيما عرف' بأسبوع تساقط الفانتوم' ليشكل أكبر نكسة شهدها الطيران الإسرائيلي, واحتفلت مصر بتاريخ30 يونيو1970, ليكون عيدا للدفاع الجوي من كل عام. تم بناء حائط للصواريخ ليقف سدا منيعا أمام الطائرات المغيرة, وجن جنون العدو الذي صب حممه علي مواقع بناء الصواريخ, محاولا منع إنشاء أي مواقع صواريخ في مسرح العمليات, لم يهن القصف من عزيمتنا, فلقد كنا نعيش تلك' الحالة' التي ذابت فيها أرواحنا وأجسادنا فد لتراب هذا الوطن, كنا نبني المواقع بيد ونشتبك مع الطائرات المغيرة باليد الأخري دون أن نحسب حسابات الموت والحياة. جسدت تلك الحرب تلاحم الشعب والجيش وتحولت من مراحل الصمود, إلي الدفاع النشط والتحدي, ثم إلي الردع والاستنزاف, لنشارك- دون أن ندري- في كتابة فصل من تاريخ الوطن. وجاءت ملحمة العبور التي تناغمت فيها أسلحة الجيش, وكان الدفاع الجوي هو الدرع الواقية لعمق مصر, والحامي لسمائها, وسجل التاريخ لحظة غالية من عمر الوطن عاشها وصنعها أبناء جيلي. بعدها عين فارسنا قائدا لقوات الدفاع الجوي وشاهدته فخورا علي شاشة التليفاز يوم احتفالات النصر. يمضي قطار العمر, وتجتمع دفعتنا من المكلفين في رمضان من كل عام في تقليد نواظب عليه منذ سنين بعيدة, نفطر معا, ونتسامر, وتتكرر الحكايات في كل عام عن بناء حائط الصواريخ وتحريكه, وبطولات الشهداء والجرحي, قصة زميلنا الذي أصيب يوم أغارت طائرات العدو علي كتيبته, صمم علي مغادرة المستشفي رغم اعتراض الأطباء, وكتب إقرارا علي نفسه ليخرج ويلتحق بكتيبته ويستشهد في نفس اليوم وكأنه في موعد لا يود أن يخلفه مع القدر, وقصص التمويه والخداع والتضحية لاصطياد الطائرات المعادية. يزين مائدة الإفطار زملاؤنا الذين أصيبوا في العمليات وتلقوا إصاباتهم بصبر وشجاعة, رفضوا الاستسلام للإعاقة, ومارسوا حياتهم بأرواح كاملة سوية وإن كانت أجسادهم منقوصة. أنظر لهؤلاء الذين حموا سماء مصر, فخورا سعيدا بانتمائي لهم, ولكني أتساءل وقد بلغنا خريف العمر, هل ستدفن حكايات البطولة مع أصحابها؟ هل تضيع أسباب النصر لأنها لم توثق؟ وكيف نحافظ علي هذا التراث؟ ولماذا لا تشترك القوات المسلحة مع الجامعات, وأقسام التاريخ المعاصر لتوثيق الأحداث وحكايات البطولة وأسباب النصر؟ والسؤال الأهم, كيف نستعيد روح أكتوبر؟ وأين نحن من تلك' الحالة' التي يذوب فيها الفرد من أجل الجماعة والمجتمع؟ كيف نستنهض الهمم لبناء وطن يحتاج عطاء كل فرد من أبنائه؟ رجعت بأفكاري إلي الجنازة, وتذكرت آخر حديث لي مع القائد الذي أودعه, حين جاء ذكره في كتاب رصد نحو أربعين شخصية أثرت في نفسي, جاءني صوته عبر الهاتف شاكرا, وقال: لا أستحق ما ذكرت, فما عملت إلا واجبي, رددت عليه صادقا: بل الكتاب كله لا يكفي أن يفيك حقك. سيدي المعلم والقائد, الفريق حلمي عفيفي, وكل جنود أكتوبر الأبرار سلااااااااام سلاح جامعة الإسكندرية