التسعينيات عقد مفصلي في تاريخ الوطن العربي, ومنطقة الشرق الأوسط, وفي فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك بشكل خاص , ليس لأنها تتوسط هذه الفترة, ولكن لأنها شهدت حماقة غزو العراق للكويت, ثم تدمير العراق نفسه علي أيدي الولاياتالمتحدة وحلفائها, في مأساة غيرت وجه المنطقة وموازين القوي والمصالح فيها إلي الأبد.. كما شهدت موجة الإرهاب الدموية التي اجتاحت مصر ودولا أخري خلال النصف الأول من العقد, وتركت جرحا غائرا ما زلنا جميعا نحاول علاجه. وكان من الطبيعي أن ينعكس كل ذلك علي السينما, التي سرعان ما بدأت تخلع عباءة الواقعية, التي كانت قد ارتدتها في الثمانينيات, لنفورها من الواقع المرير, وشرعت في اللجوء للترميز.. وربما لذلك لم تصنع سوي عدد قليل من الأفلام التي تتناول ظاهرة الإرهاب بشكل مباشر, ولم يبرز منها إلا ثلاثة فقط كلها من بطولة عادل إمام.. وربما كان هذا الأخير وهو يزعم أن أفلامه تؤرخ لتاريخ مصر يقصد تحديدا أفلامه التي تناولت ظاهرة الإرهاب, وأبرزها وأهمها علي الإطلاق الإرهاب والكباب لوحيد حامد وشريف عرفة, والذي يكمن بريقه في فكرته الرئيسية التي تتلخص في أن الظروف من الممكن أن تحول شخصا عاديا إلي إرهابي, وكذلك في نهايته التي يذوب فيها الإرهابي وسط الناس بمن فيهم من كان يتخذهم كرهائن. وهناك طيور الظلام لنفس الثنائي, والذي يساوي بين الفساد والتطرف الديني, ويقول إن خطرهما واحد ونهايتهما واحدة.. كما قدم إمام فيلما أكثر مباشرة عن الإرهاب بعنوان الإرهابي للينين الرملي ونادر جلال, وهو يوضح كيف يمكن أن يعود الإرهابي إلي صوابه وإلي طبيعته إذا عاش في بيئة صحية طبيعية وسط أسرة من الأسوياء والمعتدلين.. وعيب هذا الفيلم يتمثل في نهايته الفجة التي تشبه أفلام الكارتون, حيث يتحول الإرهابي إلي شهيد ويتلقي عشرات الرصاصات من الشرطة والجماعة الإرهابية معا من دون أن يتأثر أو يتلوث بالدم, ويمشي شارعا كاملا حتي يصل إلي حبيبته ويموت بين ذراعيها! ولم تقدم الأفلام الثلاثة رؤية واضحة أو حاسمة, ولم تقطع برأي أو موقف, بل حرصت دائما علي المراوحة بين كل الآراء والمواقف, وعلي الموازنة بينها, حتي لا يغضب أحد, بينما كانت هذه المرحلة تسعينيات القرن الماضي تتطلب اتخاذ المواقف الواضحة الحاسمة التي لا لبس ولا خلط فيها بين الجاني والضحية أو بين الفاعل والمفعول به.. ففي الأفلام الثلاثة هناك تعاطف علي الأقل نسبي مع شخصية الإرهابي باعتباره شخصا عاديا دفعته ظروفه والبيئة المحيطة به والضغوط المفروضة عليه إلي أن يتحول إلي إرهابي.. ولا غبار علي ذلك إذا كان سيتم في المقابل توضيح هذه الظروف واستعراض هذه البيئة وبيان تلك الضغوط وما أو من السبب فيها, لكن ذلك لم يحدث, بل تم تناول القضية بسطحية مثل اللحي المستعارة التي يضعها الممثلون لأداء شخصيات المتطرفين. وهناك في الأفلام الثلاثة إحالة دائمة إلي شخصيات أو جهات عليا مسئولة عن النشاط الإرهابي, وتنتهي هذه الأفلام من دون أن نعرف هذه الشخصيات والجهات العليا, تماما مثل الأفلام البوليسية التقليدية التي لا نشاهد فيها سوي الرجل الثاني أو الثالث, ويظل الرجل الأول غامضا لا نري منه سوي كتفه أو ظهره والدخان المتصاعد من سيجاره علي ضوء الأباجورة القوي.. ففي طيور الظلام, يظل المحامي الإسلامي المتشدد( رياض الخولي) يأخذ التعليمات ويتحدث هاتفيا مع شخصية لا نعرفها ولا يقدر لنا حتي النهاية أن نعرفها.. وفي الإرهابي يحدث نفس الشيء مع قيادي الجماعة( أحمد راتب), حيث يأخذ تعليماته من مجهول, علي طريقة شخصية الفيديو الشهيرة البرادعي, وكأن قيادات الإرهاب إقليميا ودوليا برادعي كبير لا يعرفه أحد. وباستثناء هذه الأفلام, وأعمال قدمها رواد واقعية الثمانينيات فيما يشبه القصور الذاتي, مثل سوبر ماركت وضد الحكومة ودماء علي الأسفلت وليلة ساخنة, انعكس هروب السينمائيين المصريين من الواقع خلال التسعينيات في لجوئهم إلي السينما الذهنية, التي قام أغلبها علي أعمال أدبية, وعلي ما يمكن تسميته بالواقعية السحرية, في أفلام مثل كابوريا والراعي والنساء وأرض الخوف والكيت كات وعفاريت الأسفلت والعديد من الأعمال الأخري, أو علي الفانتازيا, في أفلام مثل الحب في الثلاجة. كما انعكس ذلك الهروب في العودة إلي التاريخ بشكل مشوه وممسوخ, كما فعل يوسف شاهين في المهاجر والمصير, وفي الدق علي أبواب الدجل والشعوذة في أفلام مثل البيضة والحجر وعتبة الستات, وفي النقل عن الأفلام الأمريكية بلا حرج لتقديم أكشن ضعيف ومتهافت في أعمال مثل الباشا والإمبراطور وشمس الزناتي. ولم يكن الهروب من الواقع المرير في مصر والوطن العربي كافيا لتجنب آثاره السلبية علي المشاهدين والسينمائيين معا, فحدث التحول الكبير الذي نقل الأمر من الضيق والزهق والعجز واللامبالاة إلي الدادية الكاملة.. والدادية حركة تمرد قامت في أعقاب الحرب العالمية الأولي ضد كل ما كان سائدا من أعراف أو تقاليد, وأخذت تنادي بعدم المبالاة, وبالتخليص الكامل من كل ما هو معروف من قيم.. واتجه فنانو هذه الحركة إلي جمع النفايات الملقاة في الشارع أو صناديق القمامة مثل قصاصات الجرائد أو قطع الأقمشة البالية أو علب الصفيح المهشمة واعتبارها هي الفن الذي ينبغي أن يسود. ويهدف الداديون إلي مهاجمة القيم, وتخريب الجماليات, ومعاداة الذين يحترمون الفن والجمال والإبداع.. كما يهدفون إلي السخرية من الفن ذاته, وعرض كل ما هو قبيح وغريب وعابث وغير معقول. وتقول فلسفتهم: لابد من خلق فن يناقض الفن ذاته, وأطلقوا علي فنهم هذا اسم ضد الفن وأصبح شعارهم: كل شيء يساوي لا شيء.. إذن فلا شيء هو كل شيء. وهكذا أصبحت كل مشاركة في العبث والتهريج, من دون أي سبب أو هدف سوي العبث والتهريج, دادية.. وهذا هو تفسيري الوحيد لطوفان الأفلام التافهة المبتذلة الذي اجتاح مصر بدءا من عام1997, مع فيلم إسماعيلية رايح جاي, الذي حقق إيرادات خيالية بمعايير هذا الوقت بلغت16 مليون جنيه, مما جعل رءوس المنتجين تدور, والمهزلة تستمر وتتسع وتكبر إلي أن عمت صناعة السينما كلها تقريبا, وإلي أن دخلت مصر القرن الحادي والعشرين, فيما كانت أفلامها تنتمي فكريا إلي العصور الوسطي. ** في الحلقة المقبلة: أعمال الجيل الجديد من المخرجين الجادين تواجه فرق التفاهة وتجار العشوائيات