وعلي جانب آخر, كانت إيران هي الأخري تتحين اللحظة المناسبة وتسعي سرا وعلانية لتحقيق نوع من الهيمنة والوجود في الشرق الأوسط مستخدمة في ذلك كل ما لديها من أوراق. بما في ذلك حزب الله في لبنان وحماس في غزة, وعلاقة متوطدة مع سوريا. أما إسرائيل التي لم تكن تتوقع ان يمسك الشعب المصري بزمام المبادرة, فراحت تراجع حساباتها وتعلم ان مصر اليوم ليست هي مصر قبل25 يناير, وأن السلام باتت له استحقاقات مختلفة.. حتي إمدادات الغاز دخلت مرحلة الخطر الذي لم يتحسب له الإسرائيليون. هذه القوي الثلاث كانت في الماضي تبني حساباتها علي اساس غياب مصر عن الساحة وتراجع دورها الإقليمي, لكن الذي حدث ان ثورة25 يناير فتحت الباب لعودة مصر ودورها المحوري, وهو الامر الذي فطنت له تركيا بشكل مبكر وراحت تعرض خدماتها, انطلاقا من قناعة لافتة بأن التعاون مع مصر سيأتي حتما علي حساب قوي اخري خاصة ايران وإسرائيل. جاء ذلك متزامنا مع تدهور في العلاقات بين تركيا وإسرائيل, علي خلفية الموقف من الشأن الفلسطيني واقتحام اسرائيل لسفن اسطول الحرية الذي كان يحمل مساعدات لغزة. كما وجدت تركيا في الوضع المصري بعد ثورة25 يناير فرصة للتحالف وجر القاهرة الي نوع من التبعية لحاجتها التي قد تبدو مؤقتة للمساعدات الاقتصادية والدعم السياسي. من هذا المنطلق جاءت زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لمصر أخيرا حيث لوحظ العزف التركي علي القواسم المشتركة للشعبين وآفاق التعاون والمصلحة المشتركة. في الوقت ذاته كان الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يعد لزيارة السودان الجار الجنوبي لمصر, ومحاولة جر الخرطوم إلي قاسم مشترك مع طهران وهو مواجهة الغرب. وبينما كانت ايران تقترب من مصر من جهة الجنوب ولم تستطع ان تفعل اكثر من ان تقول نحن هنا, كانت تركيا تتحرك علي ارض الواقع في مصر عبر استثمارات ومشاريع بالمليارات, مع تحذير مما يوصف بخطر المد الشيعي الإيراني في المناطق السنية العربية. ويعتقد البعض ان تحرك تركيا نحو المنطقة العربية كان الهدف منه في الاساس الإمساك بورقة جديدة لملاعبة الأوروبيين للحصول علي بطاقة العضوية المبتغاة للاتحاد الأوروبي, حيث ان توسيع حيزها يحولها كما يقول صمويل هنتجتون من دولة هامشية علي أطراف القارات الي دولة مهمة من ناحية الجغرافيا السياسية, ذات ثقل مركزي. ولم يتردد مهندس السياسة الخارجية التركية أحمد داود أوغلو في القول بان تركيا تسعي لتكون ضمن قائمة اكبر عشر دول في العالم بحلول عام.2030 وترتكز السياسة التركية في هذا الإطار علي توصيل عدة رسائل للأطراف التي تسعي للشراكة معها, تحت عناوين من عينة( الأمن للجميع والمصلحة المشتركة والربح المتبادل). كما تركز تركيا حول مايسمي مبدأ تصفير النزاعات وهو مبدأ يقوم علي ابتكار أساليب جديدة لحل الخلافات وتحقيق الاستقرار في المناطق الملتهبة, واعتماد المبادرات الاستباقية, بالإضافة الي الجانب الأبرز والأهم وهو التقارب الثقافي, والذي ظهر بشكل لافت في التعاطي التركي مع مصر بعد الثورة. وتحاول تركيا أيضا الترويج لنظام سياسي جديد ربما يلقي قبولا أمريكيا/ اسرائيليا وهو مايسمي الإسلام العلماني, الأمر الذي يعني تقديم بديل للنموذج الإيراني الذي اثار مخاوف الغرب والدول العربية أيضا. وهكذا استطاعت تركيا ان ترسم لنفسها خطا نحو قيادة المنطقة مستغلة الفراغ الناجم عن غياب مصر, وهو الأمر الذي يعتمد بالاساس علي عدم إثارة مخاوف دول المنطقة والسعي لتحقيق الاستقرار والأمن علي عكس ماتفعله ايران وإسرائيل. مخاوف إسرائيل ولم تتردد الأوساط السياسية الإسرائيلية في الكشف عن مخاوف متزايدة خرجت الي العلن بشكل قوي مع زيارة اردوغان لمصر. وفي هذا السياق قال الخبير العسكري أليكس فيشمان إن أردوغان بزيارته للقاهرة سيعتبر اكبر اللاعبين في الشرق الاوسط, لانه كلما اظهر اخفاقا اكبر في اسرائيل ارتفعت اسهمه في المنطقة, مشيرا الي انه يستقبل في القاهرة باعتباره بطلا قوميا. وتساءل فيشمان عما اذا كان اردوغان يسعي مع القاهرة لتأسيس حلف استراتيجي تركي/ مصري يهدد اسرائيل. لكنه قال ان مصر الرسمية تعرف جيدا الحساسيات الإقليمية, ولن تتجرأ علي التوقيع علي اتفاقات عسكرية مضادة لدولة صديقة للولايات المتحدة( أي إسرائيل), مرجحا ان يكون هذا السبب هو الذي جعل اردوغان يؤجل زيارة قطاع غزة. ويري الخبير الإسرائيلي ايضا ان واشنطن لايهمها تقارب اثنتين من دعائم سياستها في الشرق الاوسط كأنقرة والقاهرة, لكن ليس علي حساب الدعامة الثالثة تل أبيب. إذن تركيا الصاعدة بدأت تعيد صياغة قواعد اللعبة في الشرق الأوسط وربما تنفرد بهذا الدور حتي إشعار آخر.. هذا الإشعار الآخر يتحدد مداه بناء علي اتجاه رياح التغيير في العالم العربي وما يمكن ان تنتهي اليه اوضاع الربيع العربي, خاصة ان علامات استفهام متزايدة بدأت تظهر حول مستقبل ثورتي مصر وتونس في ظل ظرف دولي وإقليمي ضاغط ومطالب داخلية حياتية لاتنتهي.