بحثا عن مستقبل تاريخ فلسطين وتراثها, في رحاب ربيع الثورات العربية, وما يسمي ب استحقاقات سبتمبر أي إعلان دولة فلسطين من خلال الأممالمتحدة, كان لنا هذا الحوار مع الباحث المعروف فيصل الخيري رئيس مركز التراث الفلسطيني, والذي يعتبره كثير من المتخصصين أحد أهم الباحثين علي جبهة تاريخ وتراث شرقنا العربي القديم عامة, والحرب السرية الدائرة علي جبهة تاريخ وتراث فلسطين بوجه خاص, وقد أثارت أبحاثه ودراساته العديد من النقاشات ترجمت إلي عدة لغات وأصبحت مصدرا لاغني عنه للباحثين والمؤرخين والكتاب في العالم. * في البداية سألته عن أهمية التاريخ والتراث في الحفاظ علي الهوية الفلسطينية ؟ ** التراث هو الصورة المتكاملة لحياة الإنسان بكل تفاصيلها, والتاريخ هوالإطارالعام الذي يعطي لهذه الصورة قيمتها, ومن ثم يمكن اعتبارهما معا, صانعي الوعي بالذات, ومنبع الفيض للمستقبل, وفي كنفهما تتحدد القسمات القومية والسياسية والحضارية, لأفراد الأمة جيلا بعد جيل, وبالتالي فان أي تزوير عفوي أو مقصود لتاريخ أي شعب أو تراثه, انما هو في النتيجة تشويه لكل وجوده القومي ولشخصية كل فرد من أفراده علي حدة. ونستطيع أن نجد مصداقا لذلك في قول الزعيم الصهيوني مناحم بيجن أمام ممثلي الجيش الإسرائيلي عقب حرب عام1956: إن قلوبكم أيها الإسرائيليون لا يجب أن تتألم وأنتم تقتلون أعداءكم, ويجب ألا تأخذكم بهم شفقة, طالم أننا لم نقض علي ما يسمي فلسطين وتراثها, واللذين سوف نبني علي أنقاضهما حضارتنا الخاصة * ولكن.. مثل هذه الاعتبارات كفيلة بأن تقودنا إلي جذور هذه القضية, فهل هي وليدة الأمس القريب, أم أن لها جذورا موغلة في القدم ؟ ** هناك من الأسانيد التاريخية ما يؤكد أن التعامل بين اليهود والتراث العربي يعود إلي الأيام الأولي التي شرع فيها اليهود إلي صياغة توراتهم التي لا تعدو أن تكون حصيلة تراث شعوب الشرق العربي القديم, كالمصريين والكنعانيين والبابليين, اقتبسه كتبة اليهود من الكهنة, وحشوه في توراتهم. وعندما نصل إلي بزوغ فجر الإسلام, يتجلي هذا الاتجاه في محاولاتهم تشويه التراث الإسلامي في الإسرائيليات بما يتواءم مع خطابهم التوراتي. * وهل كان للحركة الصهيونية دور في هذا الاتجاه ؟ ** تاريخ فلسطين وتراثها يكادان يكونان الوحيدين اللذين تضافرت عليهما جهود الصهاينة ومن والاهم, بكل مؤسساتهم وإمكاناتهم لأجل مسخهما وتقزيمهما واضعين نصب أعينهم, شل العلاقات التي تربط أصحابهما, بحقيقة ما كان عليه أسلافهم من التقدم والقوة والسيادة. وكانت الخطوة الأولي التي خطتها الصهيونية في هذا المجال, نجاحها في افتتاح الجامعة العبرية في القدس عام1925, فقد استطاعت مكتبتها في ظل الغيبوبة التي كانت سائدة في أنحاء الوطن العربي. وبمساعدة أغنياء اليهود الصهاينة, اقتناص الآلاف من الكتب الفلسطينية التراثية النادرة( مخطوطة ومطبوعة) بالسرقة أو الاحتيال والابتياع,وكانت الهجمة الثانية عام1948, حين تمكن الصهيونيون من الاستيلاء علي ثلثي مساحة فلسطين, ومن ثم استولوا علي كل ما تحتويه هذ ه المناطق من آلاف الكتب التراثية الموجودة داخل المكتبات العامة والخاصة. * وما مدي تأثير ذلك علي الحياة الثقافية في فلسطين؟ ** أولا لابد من الإشارة إلي أنه بحلول عام1967. وباستيلاء إسرائيل علي البقية الباقية من أراضي فلسطين, اكتملت الدائرة لحصار التراث الفلسطيني. وهذا بدوره جدير بأن يفسر لنا التمادي في تبجح العديد من قادة إسرائيل, بأن الفلسطينيين لم يتركوا أي آثار فكرية تدل عليهم, بغية تسويغ مقولتهم المغلوطة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ونستطيع أن نجد مصداقا لذلك فيما ذكره الروائي الفلسطيني إميل حبيبي: انه آلمه إلي أقصي حد, وزير الثقافة في إسرائيل يغالون آلون عندما تلفظ بقول مهين, يدل علي جهله أو تجاهله, حيث قال: انه لو كان يوجد شعب عربي فلسطيني, لكان خلف وراءه تراثا, فاين هوالكتاب الفلسطيني, الأدب الفلسطيني والشعر الفلسطيني ؟ * وهل تبقي شئ من هذا التراث للجيل الحالي والأجيال القادمة ؟ ** يا سيدي لقد توهم الصهاينة, أن التراث الفكري الفلسطيني قد غدا قاب قوسين من الضياع أو أدني, وبنوا تصوراتهم في ضوء النكبات العديدة التي تكالبت عليه ببد أنه من حسن حظ التراث الفكري الفلسطيني, شاءت العناية الإلهية منذ نحو ثلاثين عاما, أن أتنبه الي خطورة هذه القضية, ومن ثم تمكنت خلال هذه المدة من العمل الجاد وبمجهودات فردية من جمع نحو ثلث التراث الفكري الفلسطيني المطبوع ما بين عامي1850 و1948, وهو القرن السابق لزوال عروبة فلسطين, مما يندر وجوده مجمعا في أي من مكتبات العالم. ومن الجدير بالتنويه إليه هنا, أن ذلك الجهد لم يقف عند حد جمع التراث وحمايته, بل تعداه الي محاولة إحياء هذا التراث من خلال بعض الصحف والمجلات الفلسطينية والعربية سواء بسواء. كما أننا لم ندخر جهدا في سبيل مساعدة أي باحث يعمل في هذا المجال. *تحدثت بما فيه الكفاية عن الحرب الخفية التي دارت علي جبهة التراث الفكري الفلسطيني, وقد آن الانتقال الي الحرب الخفية التي دارت رحاها علي جبهة الآثار والتاريخ الفلسطيني, وأول ما يتبادر الي الذهن في هذا السياق, السؤال عن طبيعة هذه الحرب؟ **فيما يخصنا فان حربا كحربنا هذه لا مفر لها من أن تركز علي تحري الحقائق التاريخية فيما يخص فلسطين القديمة, من ماض خيالي, فرض علي فلسطين بواسطة خطاب الدراسات التوراتية, احتفظ بتاريخ فلسطين القديم الي إسرائيل وحدها, ولم يكن ذلك التحرير ليتم علي الوجه الأكمل, إلا بحشد الجهود في سبيل تصديع تاريخ الآخر, ومن ثم المطالبة بموقع للتاريخ الفلسطيني ضمن الخطاب الأكاديمي في أقسام للتاريخ. *وماهي أبرز ملامح التطور الذي طرأ علي خطاب الدراسات التوراتية؟ **تبلور هذا الاتجاه, حين غدا التنقيب عن أي أثر يعود الي إسرائيل القديمة المزعومة, بمثابة هوس أصاب الحجاج والرحالة الأوروبيين, منذ القرون الأولي لميلاد المسيحية, لكنه تطور الي هوس مرضي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, فخلالهما أصبح التاريخ الفلسطيني أحد التواريخ المستبعدة, في ظل خلافة عثمانية تلفظ أنفاسها, وشعب فلسطيني تطحنه صراعات الزعامات المحلية, ونشاط غير مسبوق للإرساليات والمستشرقين, والذي نستطيع أن ندركه, أنهم بهذا قد عجلوا بقيام علم الآثار الفلسطيني, فمنذ عام1850 تم تأسيس الكثير من الجمعيات في أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية, هدفها الأول اختلاق إسرائيل القديمة, وحجب التاريخ الفلسطيني, وهذا الاتجاه يوضحه الدستور الخاص بصندوق استكشاف فلسطين, الذي أنشئ عام1865, وفحواه أن فلسطين لم تكن مهمة لذاتها, بل لإثبات ما جاء في التوراة من روايات, يزعمون أن مسرحها أراضي فلسطين. *أود لو ذكرت لنا من هو أول من انتدب لإنجاز مهام هذا الصندوق؟ **كانت باكورة جهود هذا الصندوق, تعيين بعثة إنجليزية عام1872 تحت قيادة' كوندر' الكابتن بسلاح المهندسين الملكي البريطاني, لوضع خرائط مفصلة لفلسطين, محاولا تعيين مواقع الأسماء الواردة في التوراة( القري والمدن) وهكذا بدأت الخطوة الأولي في محاولة تهويدها. *وهل كان سوكولوف يقصد بذلك أن كوندر هو واضع أسس خطاب الدراسات التوراتية في العصر الحديث؟! **نعم, ونستطيع أن نستمر طويلا في ضرب الأمثلة علي ذلك, فمن تلامذته' وليم أولبرايت' الذي اعتمد علي كوندر في تحويل أسماء المدن والقري العربية الي أسماء توراتية, وهي ذات الأسماء التي تستخدمها سلطات الاحتلال الإسرائيلي, عندما تشير الي مدن وقري فلسطين. لذلك عندما كرمت الدوائر الإسرائيلية اسمه بإصدار مجلد تذكاري, سجلت في مقدمته:' لن يجد اليهود والإسرائيليون صديقا مثل ما وجدوه في أولبرايت'. *في رأيك ماهو تأثير الانتداب البريطاني علي فلسطين في الدفع بعجلة هذا الأتجاه؟ **يوضح هذا الاتجاه ايضا, صك الانتداب الذي تضمن وعد بلفور في إشارته الي الربط بين اليهود المشتتين في العالم وأرض آبائهم كما أسموها. وهذا يجلو للأذهان نجاح الصهيونيين منقطع النظير, في السيطرة علي مراكز الأبحاث والدراسات التي تتولي هذا الجانب في الغرب, وتجنيد مجموعات من الباحثين والأثريين والمؤرخين التوراتيين. ويرجح الباحثون أن اكتمال دائرة المؤامرة, قد تم بتأسيس دائرة آثار الكيان الصهيوني, بعد مرورأقل من شهر علي إعلان الدولة رسميا, بهدف السيطرة علي المواقع الأثرية. *وهل لعبة الكوارث هذه قد استمرت رحاها في الدوران؟ ** كانت آخر حلقات المؤامرة بالاستيلاء علي الآثار الفلسطينية بعد ابتلاعهم لبقية فلسطين عام1967, وبالنتيجة جرت التنقيبات علي قدم وساق في مناطق متعددة من فلسطين, بعد أن عجزت التنقيبات السابقة, عن الظفر بما يتواءم مع أهدافهم وغدت القضية بالنسبة إليهم حياة أو موتا, وتحول الحماس إلي هوس مرضي وهاجس وطني معا, حيث أعلنت حالة الاستنفار علي أشدها. وهيأوا لها كل ما تحتاجه من امكانات, بيد أن مصير التنقيبات التي نجمت عن هذه الجهود المسعورة, لم يكن بأحسن حال من سابقاتها اذ لم يعثر علي أي أثر, يثبت اي وجود لليهود في فلسطين. * تستدعي هذه الحقيقة كما تستدعي هذه القضية الشائة بعض التفسير؟ * بقدر ما نستطيع أن نتبينه, علي هدي سجلات آثار الشرق العربي القديم, أن جميع الشعوب والأمم, التي كانت لها صلة بفلسطين, قد تركت آثارا شاهدة علي تلك الصلة إلا اليهود, وظلت الآثار تشير إلي مبتكريها منذ نحو1.7 مليون سنة مضت حسب ما توصلت إليه أبحاث علماء ماقبل التاريخ في فلسطين جماعات عرق الاحمر, والعبيديين, والكباريين, والنطوفيين والطاحونيين واليرموكيين والكنعانيين وكلهم من أصحاب البلاد الأصليين أما الفاتحون كالمصريين والهكسوس والبابليين والآشوريين والفرس واليونان والرومان والعرب المسلمين, فكلهم تركوا آثارا تدل عليهم إلا اليهود, وما وجد من آثارهم إنما يعود الي القرن الثاني ق.م, الفترة التي تكونت فيها الدولة( المكابية) التي لم تعمر سوي ثلاثة ارباع القرن من الزمان, ولم تكن سوي غرزة في عباءة تاريخ فلسطين الفضفاض. * عدت للمسألة مستوضحا: وهل هناك ثمة رأي للتاريخ يدعم وجهة النظر هذه؟ *عند هذا الحد, ألم يحن الوقت, لأن تكشف لنا المستور عما آلت إليه الأمور فيما يخص الحرب الخفية علي جبهة علم الآثار الفلسطيني؟! ** لقد شاءت الأقدار, أن ينقلب السحر علي الساحر, وهكذا نري أن حصان الخطاب التوراتي, الذي طالما طاف في أرض فلسطين أكثر من مائة وخمسين عاما, شاء القدر أن تغلق في وجهه المنافذ, ولا تزال الدائرة تضيق عليه يوما بعد يوم. وقد بدأ ذلك الاتجاه يتعزز منذ ثلاثة عقود من الزمن, علي أيدي نخبة من نبلاء الضمير من علماء الآثار الغربيين الذين استطاعوا الإفلات من قبضة الخطاب التوراتي. أمثال: مكاليسير وكاثلين كينيون, وتلاهما بولاب الذي فتح عمله الطريق لنقد الخطاب التوراتي في علم الآثار أمام جلوك وآخرين. والملمح المشترك الذي تتقاسمه نتائج هؤلاء العلماء, هو التخلي عن الافتراضات المسبقة التي فرضها التفسير التوراتي, وبفضل جهودهم وجهود صحبهم, أصبح بإمكاننا التفاؤل بأن ثمة أملا في المستقبل القريب ببدء فك الحصار عن التاريخ الفلسطيني, بعد تحريره بالتدريج من قبضة الدراسات التوراتية, وتكسير القيود التي كبلته طويلا. * وهل وجد هذا الاتجاه من يؤيده بين علماء التاريخ والآثار الاسرائيليين؟! ** ثمة شواهد يستفاد منها أن هناك من بين المؤرخين الإسرائيليين, من سبقوا في هذا الاتجاه الاثاريين والمؤرخين الغربيين, مثل بوعز عفرون صاحب كتاب الحساب القومي والذي رفض فيه الادعاء القائل بأن لليهود الحق التاريخي في فلسطين, والذي يسمح لهم بطرد شعب كامل من أرضه. وأكد أن مسرح الأحداث التوراتية, يمكن أن يكون في أي بقعة إلا فلسطين. وفي يوليو1998 أعلن فريق من علماء الآثار العاملين في دائرة الآثار الإسرائيلية, بطلان العديد من الادعاءات التوراتية, معترفين في الوقت نفسه بأهمية الحضارات الفلسطينية التي سبقت الوجود اليهودي المزعوم. ومما قاله روني أريك في هذا الصدد آسف لأن السيد داود والسيد سليمان لم يظهرا في هذه القضية, وأعقب ذلك مقالة عالم الاثار الإسرائيلي زئيف هرتسوج في مقالة له في صحيفة هاآرتس عام1999 تحت عنوان التوراة لا اثبتات علي الأرض وهي في بدايتها ونهايتها تضحد ما جاء في التوراة من أساطير. وقد ختمها بقوله: انه بعد الجهود الجبارة في مضمار التنقيب عن إسرائيل القديمة, توصل علما الاثار إلي نتيجة مخيفة, لم يكن هناك أي شيء علي الإطلاق حكايات الآباء مجرد أساطير, لم نهبط إلي مصر. ولم نصعد من هناك, ولم نفتح فلسطين, ولاذكر لإمبراطورية داود وسليمان, والباحثون والمهتمون يعرفون هذه الحقائق منذ زمن, أما المجتمع فلا. وهذه الخاتمة صحيحة. بقي أن نعرف أن مسألة الحفاظ علي التراث الفكري الفلسطيني وبعثه في الأمد القريب والبعيد, ليست فقط مسألة هوية أو لا هوية, بل هي مسألة حياة أو موت, فلت يمضي وقت طويل, حتي يندثر هذا التراث ويضيع, نتيجة للصراع غير المتكافئ الذي يخوضه الفلسطينيون في سعيهم للمحافظة علي تراثهم, والذي هو السلاح الأشد مضاء في مقاومة الاحتلال والاستعباد والتذويب, فالشعب الذي يتعرض للاحتلال والاستعباد, سيظل قابضا علي مفتاح سجنه, ما تمسك بتراثه.