لميدان التحرير بهجة جعلته يبدو كصاحب دار يتفنن في كيفية إدخال السرور علي ضيوفه الوافدين إليه من أقاصي البلاد ويرفع لهم راية الامتنان والشكر العميق لتذكيتهم له كمضيف لهم.. تلك البهجة التي اراها دوما ترتسم علي الوجوه الثائرة والغاضبة والمتظاهرة والمعتصمة منذ قيام الثورة وحتي هذه اللحظة.. وبحكم عملي كموظف بمجمع التحرير الشاهد علي الميدان صادفت أحد هذه الوجوه التي اتخذت من ميدان التحرير موطنا ومسكنا.. هذا الوجه الذي صار الميدان بالنسبة له بمثابة اهله واحبابه وعشيرته المقربين وصار من حوله من الثائرين هم كل ماله في هذه الدنيا.. الكل يروح ويأتي الا هذا الرجل الذي يقارب عمره الخامسة والستين: نحيف, اسمر جميل وجهه طيب وغاضب وحزين وقوي.. بدأت علاقتي بهذا الوجه علي انه احد وجوه هؤلاء المصريين الذين اعادوا لي اكتشاف حبي لهم وللبلد.. ملامحه كافية لتصديق قضيته دون ان اعرفها او حتي دون أن أعرف سبب وجوده واعتصامه غير المنقطع, فقط أدركت أن هذا الرجل هو واحد من اصحاب البلد الذين يحاولون استعادته مرة أخري, الأوراق واللوحات المكتوبة بخط يده وتوثيقه للاحداث وطرحه لرأيه بمنتهي الصراحة. فيما يحدث.. كل كلامه ينصب علي مصر وتحريرها وانحصر في مطالبته بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. كل هذه اللوحات التي تفترش ارض الميدان مكتوبة بلغته الادبية البسيطة التي تكشف عن شخص متعلم وصاحب رؤية وطنية صادقة لا غبار عليها.. كل هذا ولم اجرب ولم أحاول أن أجرب أن اسأله يوما خلال الثورة او حتي بعدها عندما شاهدته في جمعات إنقاذ الثورة المتتالية أو جمعة لا للتعديلات الدستورية... لماذا انت هنا في ميدان التحرير هكذا..؟ ربما لانني كنت اعتبر ان الاجابة بديهية حاله كحال الكثيرين الذين يؤمنون ويوقنون بأنهم سيظلون بميدان التحرير لحين استعادة البلد وتحقيق مطالب الثورة.... في يوم مليونية الثلاثاء التي اذيع فيها بيان الاصبع العسكري قابلت هذا الرجل ووقفت امام لوحاته اقرأ ما فيها وبين الحين والآخر كنت انظر اليه وفجأة لمحت في وجهه وللمرة الأولي شبح ابتسامة. واشار الي في حماس بقبضه يده وبشكل تلقائي.. فما كان مني الا ان اجبت حماسه بنفس الطريقة بقبضة يدي وابتسمت له.. كنت قد قرأت في ابتسامته دعوة كريمة للحديث معه جلسنا معا علي رصيف ساخن في عز سخونة الظهيرة.. وفي الحقيقة لم اكن في حاجة لكي اسأله عن اسمه فكل جيرانه في خيام الميدان ينادونه ابو مينا وكان مينا هو بطل الحوار الذي اخذنا لمدة ساعتين.. فهو الابن الثالث في ترتيب ابنائه الاربعة.. مينا العريس الجديد الذي ينتظر وليده الاول بعد ايام قلائل.. وراح الرجل يصول ويجول في حديث دائم مستمر عن مينا ابنه بما يدلل علي انه المقرب له بين ابنائه او هكذا تصورت.. الحر الشديد لايمنع التجمعات الكثيرة من رواد الميدان وكلما جاء شاب واقترب من ابومينا اعتقدت انه مينا. سألته بشغف وإصرار.. ما الذي دفعك للاعتصام وللبقاء في الميدان منذ أيام الثورة الأولي وحتي يومنا هذا..؟ كان الرجل قد مسح خيوط العرق التي تنساب بغزارة علي وجهه المترب بفعل الحر الشديد واجابني من حيث يعلم الاخرون المحيطون به في الميدان... قال بحرقة شديدة: لن أغادر هذا الميدان لوهلة لم أفهم ماذا يقصد الا أني حاولت ربط كل ما قاله عن مينا لفهم الموقف.. مينا الذي يتحدث عنه الرجل طيلة حوارنا بصيغة الواقع والحالي والمضارع لابصفة الماضي مات برصاص مسدس ميري يوم جمعة الغضب28 يناير, وكانت اللحظة التي أودع فيها الرجل جثة ابنه مينا بالمقابر هي نفس اللحظة التي قرر فيها البقاء بالميدان لدرجة أن اصبح الميدان هو ملاذه الأخير. الشرقية محمد الحديدي