صرنا نحن العرب والمسلمون والمصريون موهومين بشئ اسمه' اللوبي اليهودي' في الولاياتالمتحدةالأمريكية, ووصل الحديث عن هذا' اللوبي' إلي من يصوره علي أنه المسيطر علي صنع السياسة في الولاياتالمتحدة والجهة التي تأمر وتنهي, ليس فقط فيما يتصل بالسياسة الأمريكية ليس فقط في الشرق الأوسط أو حتي السياسة الخارجية الأمريكية ككل , بل حتي فيما يتعلق بالسياسات المتبعة في الداخل الأمريكي, بما في ذلك سياسات الإدارة والكونجرس تجاه العرب والمسلمين الأمريكيين. والواقع أن قوة وتاثير' اللوبي اليهودي' ليسا موقعي إنكار أو نفي, إلا أن ما يجب تفاديه هو تحويل هذا' اللوبي' إلي اسطورة أو خرافة نظل نضيف إليها من خيالنا وبنات افكارنا حتي نجعل منها بأيدينا' وحشا كاسرا' لا مجال لفهمه أو التعامل معه أو تحييد آثاره السلبية علينا أو احتوائها, كما حدث عند تناول مسائل أخري في السابق منها دولة إسرائيل نفسها, حيث أن لدي العقلية العربية في طورها الراهن تلك النزعة للتهويل في الاتجاهين, سواء اتجاه المبالغة نحو التضخيم أو التقليل من الشأن إلي حد الاستهانة والتحقير. أما في حقيقة الأمر فإن' اللوبي اليهودي' في الولاياتالمتحدةالأمريكية هو جماعة ضغط ومصالح مثله مثل بقية جماعات الضغط والمصالح في الحياة الاجتماعية والسياسية الأمريكية. صحيح أن هذا' اللوبي' هو بالتأكيد أكبر ثقلا وأهم دورا من كثير غيره من تلك الجماعات, ولكنه يبقي عاملا في سياق الآليات التي تعمل في إطارها تلك الجماعات بشكل عام, وتسري عليه نفس القواعد والقيود التي تسري علي غيره, وأبرز أدلتنا علي ذلك هو عدد القضايا التي أقامها الادعاء الامريكي علي بعض المنظمات الامريكية اليهودية في السنوات الماضية وعلي اعضاء بمنظمات اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدةالأمريكية, بما في ذلك واحدة من أكبر وأقدم هذه المنظمات وأكثرها سلكا للدور التقليدي لجماعات الضغط والمصالح وفقا لتعريف النظام السياسي الأمريكي لها وهي' اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة( الايباك)', بتهمة مخالفة القواعد التي تحكم عمل جماعات المصالح بصفة عامة, بما في ذلك الحصول علي وثائق علي درجة من السرية بشكل غير مشروع أو التعامل مع ممثلي حكومات أو جهات أجنبية, حتي إذا كان هؤلاء الممثلون إسرائيليين يتمتعون بوضع دبلوماسي في الولاياتالمتحدةالأمريكية, كما حدث بالفعل في أكثر من حالة. ولا يحول ذلك دون الإقرار بأن نفوذ' اللوبي' اليهودي تخطي قدرات غيره من جماعات المصالح, ربما بمراحل, ولكن مرة اخري الهدف هنا هو إزالة تلك الهالة من الغموض غير البناء التي تحيط بذلك' اللوبي' عندما يتحدث الناس, بما في ذلك بعض المثقفين, عنه في عالمنا, والنزول إلي أرض الواقع للتعرف علي الحقائق دون زيادة أو نقصان. ونود الآن التعرض لتقسيم المنظمات اليهودية الأمريكية, حيث أن أحد الأخطاء الشائعة أيضا عند التعامل معها هو افتراض البعض المسبق بأن هذه المنظمات موحدة أو أن الاختلافات فيما بين هذه المنظمات مجرد توزيع أدوار. ولكننا نزعم هنا أن هناك تباينات حقيقية فيما بين هذه المنظمات. وهناك تقاطع بين اليمين واليسار والوسط عند تحديد مواقف مختلف هذه المنظمات. صحيح أن كثيرا من هذه المنظمات إما نشأت أصلا في العقود الأخيرة في موقع يميني, مثل حالة كل من' منظمة صهيونيي أمريكا' ومنظمة' بناي بريث', أو تحركت إلي هذا الموقع, مثل' الايباك' والمؤتمر العام للمنظمات اليهودية الأمريكية و'لجنة مكافحة التشهير', عبر مسيرة تطورات حدثت إما في إسرائيل منذ صعود اليمين إلي الحكم عام1977? أو نتيجة تحولات باتجاه اليمين في صفوف الفئات الأعلي صوتا, وربما الأكثر تنظيما, في صفوف الأمريكيين اليهود منذ حكم الرئيس الجمهوري الأسبق رونالد ريجان وصعود' الصهيونية المسيحية' وتحالفها مع اليمين الصهيوني اليهودي. ولكن تبقي حقيقة أن قطاعا من المنظمات الامريكية اليهودية ما زال إما يقف في مربع اليسار أو حدود الوسط الايديولوجي والسياسي. ويقف في صفوف اليسار من هذه المنظمات' حركة امريكيون من أجل السلام الآن', وهي التي نشأت في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن العشرين باعتبارها الجناح الأمريكي لحركة' السلام الآن' الاسرائيلية التي نشأت في أعقاب زيارة الرئيس المصري الراحل' أنور السادات' للقدس في نوفمبر1977 داعيا لتسوية تاريخية تتنازل إسرائيل بموجبها عن الأراضي التي احتلتها عام1967 وبناء دولة فلسطينية في الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة واقتسام القدس لتكون عاصمة للدولتين: الفلسطينية والاسرائيلية. وتتبع' حركة أمريكيون من أجل السلام الآن' نفس آليات عمل' الايباك', أي الاتصال باعضاء الكونجرس الأمريكي بمجلسيه( النواب والشيوخ) ومساعديهم لعرض وجهة نظرهم والترويج لها في صفوفهم, وعقد الندوات وورش العمل في مبني' الكابيتول'( مقر الكونجرس) واستضافة المتحدثين ممن يتبنون نفس وجهة نظر الحركة للدفع بها. ولا جدال في أن قادة' حركة أمريكيون من أجل السلام الآن' أدركوا خلال فترتي ولاية الرئيس الستبق جورج بوش الابن أن الزمن تغير وأن يسار المنظمات الأمريكية اليهودية لم يعد يمثل الأغلبية داخل صفوف القوي الفاعلة والناشطة في صفوف الأمريكيين اليهود, وعانوا بالتالي من تناقص التمويل المتاح لهم, وربما تراجع التأثير والوزن والدور عن فترات سابقة, ولكن يذكر لهم أنهم استمروا في تبني مواقفهم عن قناعة والدفاع عن أطروحاتهم, وقد شجع ذلك في فترة لاحقة, وعقب تولي الرئيس أوباما الحكم ودفعه لإقامة سلام عادل بين إسرائيل والفلسطينيين يقترب في الكثير من مكوناته من الطرح العربي, علي قيام منظمة أخري ذات توجه تقدمي لليهود الأمريكيين وهي' جي ستريت', وإن كانت ما زالت وليد وفي مرحلي النشأة والتكوين, مع ما يبدو من حصولها علي تعاطف مسئولين داخل الإدارة الديمقراطية الجديدة. ونعود إلي' حركة أمريكيون من أجل السلام الآن', فنقول أن مواقفها المشار إليها آنفا ليست حبا في العرب أو الفلسطينيين, أو من منطلق رغبة مثالية في العدالة المطلقة أو الانجرار خلف قيم اخلاقية عامة, بل إن الدافع الرئيسي والأساسي هو قناعتهم العميقة بأن ما يبشرون به هو عينه مصلحة إسرائيل وفي الوقت ذاته مصلحة الأمريكيين اليهود, باعتبار أن السلام العادل مع الأمن المضمون هو وحده الذي يكفل لإسرائيل فرص الوجود الآمن والتعايش بسلام مع جيرانها وأن تحظي بالقبول من البيئة العربية والإسلامية الغالبة التي تعيش في وسطها, كما أن من شأن ذلك تحجيم انتشار المد الأصولي في صفوف اليهود داخل إسرائيل وخارجها, وبالتالي السماح بالعودة لما تعتبره تلك الحركة وأنصارها القيم الأصلية للحركة الصهيونية, وهي قيم تراها الحركة علمانية وذات منحي يساري في الأساس. وبالطبع تقترب هذه الحركة من كل من حركة' ميريتس' اليسارية وقطاعات من حزب العمل الإسرائيلي وغيرهما من قوي اليسار ومعسكر السلام داخل إسرائيل. ولكن يجب ألا ينتابنا أي شك في أن' حركة أمريكيين من أجل السلام الآن' كمنظمة يهودية أمريكية لديها خطوط حمراء منها تصديها, مثلها في ذلك مثل كافة المنظمات اليهودية الأمريكية, لكل ما به شبهة' عداء للسامية', سواء كان جديا مثل شكوك الرئيس الإيراني أحمدينجاد حول المحرقة أو من عينة الاتهام الذي وجه للمسلسل التليفزيوني' فارس بلا جواد', خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أنه بالولاياتالمتحدةالأمريكية لا يوجد حتي اليوم أي قانون يجرم إنكار المحرقة( الهولوكوست) التي تعرض لها اليهود علي أيدي الزعيم الألماني النازي' أدولف هيتلر' أو التشكيك فيها أو إثارة الأسئلة حولها, أسوة بما هو موجود لدي غالبية الدول الأوروبية مثلا. كذلك يجمع هذه الحركة مع غيرها من المنظمات الامريكية اليهودية, علي تنوعها, حماية بقاء دولة إسرائيل ومنعتها وقوتها ومواجهة أي تهديد يواجهها, بدءا من ادعاءات امتلاك العراق في زمن الرئيس الراحل صدام حسين لأسلحة نووية إلي التخوف علي أمن اسرائيل من البرنامج النووي الإيراني ومن تهديدات الرئيس الإيراني' محمد أحمدينجاد' بشأن' إزالة دولة إسرائيل من الوجود'. ومن المواقف البارزة للحركة الوقوف بقوة ضد تلبية الإدارة والكونجرس الأمريكيين للمطالب المتكررة لحكومة رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق' ارييل شارون' للحصول علي ضمانات قروض أمريكية لإسرائيل. وكان مبعث هذا الموقف هو القناعة بأن هذه الضمانات ستذهب لتغطية نفقات بناء مستوطنات إسرائيلية أو توسعة مستوطنات قائمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام1967 مما سيعقد من الوضع لعملية السلام وبالتالي تتواصل حالة عدم الاستقرار وعدم الأمن التي تعاني منها إسرائيل. بل إن الحركة ذهبت إلي حد التحدث مع مسئولي الإدارة والكونجرس لإقناعهم بضرورة استخدام سلاح المساعدات لإسرائيل للضغط علي الأخيرة لتقديم ما يسمي بتنازلات لصالح تقدم عملية السلام. ونبع كل ذلك بالطبع من حرص علي ما تراه الحركة مصلحة إسرائيل وليس أبدا من منطلق أي عداء لإسرائيل. وهناك في وسط الخريطة الفكرية والسياسية للمنظمات الامريكية اليهودية تقف منظمات من أبرزها' منتدي السياسات الإسرائيلية', وتحديدا في يسار الوسط. وهذا المنتدي يقترب في بعض مواقفه من حركة' أمريكيين من أجل السلام الآن', ولكنه يقترب في بعضها الآخر من بعض فصائل اليمين في صفوف المنظمات الأمريكية اليهودية. إلا أنه في الحساب الختامي يتم تعداد' منتدي السياسات الاسرائيلية' ضمن الجماعات الامريكية المعتدلة فيما يخص القضايا الأساسية التي تهم العرب والمسلمين. ولا ينفي ذلك مثلا أن المنتدي غالبا ما يتحفظ علي, وبخلاف حركة' أمريكيين من أجل السلام الآن', استخدام المساعدات الأمريكية لإسرائيل كوسيلة ضغط للتأثير علي مواقف الأخيرة تجاه عملية التسوية السلمية بين العرب وإسرائيل. ولكي نتعرف بشكل افضل علي مصادر قوة' اللوبي' اليهودي في الولاياتالمتحدةالأمريكية, يتعين أن نشير إلي حقيقة أن الأمريكيين اليهود يمتلكون قدرا كبيرا, لا يتناسب بطبيعة الحال مع نسبتهم المحدودة من السكان في بلادهم, من السيطرة علي القطاع المالي والمصرفي الأمريكي, بما في ذلك اسواق المال الكبري في العالم, بالإضافة إلي قدر كبير من السيطرة علي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وكذلك الصحافة الأمريكية. فالعامل الأول يمنح المنظمات الامريكية اليهودية مصدر قوة تمكنه من فتح وإغلاق باب الإغداق في التبرعات في الحملات الانتخابية للمرشحين, أيا كان انتماؤهم الحزبي, وأيا كانت الانتخابات التي يترشحون فيها والمواقع التي يتنافسون عليها, وذلك بحسب مدي التزام المرشح ب' أجندة' اللوبي اليهودي ودرجة مناصرته لها والدفاع عنها. أما الاعلام المقروء والمرئي والمسموع فيتيح للأمريكيين اليهود من جهة الدعاية, سواء في وقت الانتخابات أو في غيرها, لصالح من يتواكب معهم وضد من يحاول تبني مواقف مناهضة لهم, ومن جهة أخري رمي التهم ومحاولة إلصاقها بمن يتشككون في مدي ولائه للوبي اليهودي ومطالبه ودرء الشبهات عن من يؤيدون اللوبي ويرفعون رايته وذكر مناقبهم والتعظيم من قدرهم وشأنهم. أما مصدر القوة الثالث للمنظمات الأمريكية اليهودية فينبع من الدرجة المتقدمة من الاندماج التي نجح اليهود الأمريكيون في تحقيقها في سياق حياتهم اليومية والدائمة في المجتمع الأمريكي. ولا ينفي ذلك احتفاظ اليهود, خاصة المتدينين منهم, بالثقافة اليهودية وممارسة الشعائر الدينية الخاصة بهم. ويندرج الأمريكيون اليهود ضمن أربعة عناوين عريضة تضم كل منها العديد من الفرق والاتجاهات. وتنقسم هذه التيارات العريضة إلي: أرثوذكس, إصلاحيين, إحيائيين, وليبراليين. ولكن معظم الأمريكيين اليهود حققوا قدرا عميقا وعريضا من التواصل مع المجتمع الأمريكي, ربما بسبب تاريخ وجودهم القديم نسبيا في هذا المجتمع, وربما بسبب أنه في نهاية الأمر, وبدون تهويل أو تهوين, تبقي حقيقة وجود إرث يهودي-مسيحي مشترك, سواء علي صعيد الذاكرة التاريخية, أو الاعتقاد الديني, أو المشترك من القيم, يسهل من حدوث قدر من التوافق بين المجتمع الأمريكي والامريكيين اليهود الذين يعيشون فيه أما العنصر الرابع الذي نذكره هنا فيتصل بقدرة اللوبي اليهودي علي مد الجسور وبناء شبكات من العلاقات والتربيطات مع جماعات مصالح أخري, سواء منها ما هو مساوي في تأثيره أو حتي يفوق تأثيره ذلك الخاص باللوبي اليهودي مثل حالة اللوبي الخاص بالأمريكيين من أصل أفريقي أو اللوبي الخاص بالمنفيين الكوبيين, أو تلك التي نشأت مؤخرا وتحتاج بدورها إلي دعم اللوبي اليهودي أو علي الأقل التعلم من خبراته وتجاربه الثرية كواحدة من أقدم وأكفأ جماعات الضغط في الحياة السياسية الأمريكية وأقواها تأثيرا, مثل اللوبي الهندي مثلا وغيره أما العنصر الخامس فيتصل بالدعم الذي تقدمه الدولة الإسرائيلية للمنظمات الأمريكية اليهودية, خاصة تلك التي تتسق مواقفها مع مواقف الحكومات الإسرائيلية, وهي أساسا في السنوات الأخيرة المنظمات الأمريكية اليهودية ذات التوجه اليميني, وقد لا يكون هذا الدعم ظاهرا في أغلب الأحيان, بل في أكثر الأحوال قد يكون خافيا, ولكنه يهدف لتبادل المعلومات والآراء بما يعزز فرص نجاح جهود المنظمات الأمريكية اليهودية في تمرير ما من شأنه تعزيز المصالح الإسرائيلية والعلاقات الأمريكية الإسرائيلية بالإضافة إلي إيجاد الروابط الروحية والثقافية بين الجيل الثاني وما يليه من أجيال الأمريكيين اليهود وبين دولة إسرائيل. ومن جانب آخر, تعمل هذه الجهود علي تعميق دور وتوسيع تأثير المنظمات الأمريكية اليهودية في المجتمع الأمريكي بشكل عام وفي صفوف الأمريكيين اليهود علي وجه الخصوص.