كيف يكون شهر الصيام نقطة انطلاق جديدة للذات، يستطيع من خلالها أن يسمو بذاته على المستويين الفردى والجمعى، وأن يعيش العام كله بالذخيرة الإيمانية لشهر الصيام، وأن يتخذ من القيم الرمضانية دستورًا لحياته، يودع فيها شخصه القديم، ليبدأ الحياة بالإنسان الجديد الذى صنعته أخلاق الصيام..؟ وشهر رمضان كما كان موسمًا للطيبات وفرصة لتجديد الذات، وتغييرًا للنفس والسمو بها بعيدا عن المنكرات، فهو أيضًا من الممكن أن يكون ذخيرة وزادًا للمؤمن طوال العام، وكما كان شهر العبادات والرحمة والمغفرة مجيئه فرحة وذهابه حسرة على المسلم، فمن المكن أيضًا أن يكون وسيلة لفهم الغاية من تشريع الصيام بالشكل الصحيح الذى فرض من أجله، وهو ألا يكون الإنسان بعد الصيام هو نفس الشخص قبل الصيام. وهذا التحقيق هو محاولة إيمانية للوصول إلى الغاية التى من أجلها شرع الصيام، وليعلم المسلم أن رمضان لم يكن مجرد شهر وأيام فى عداد السنين، بل هو ثورة داخل نفس الإنسان، يغيرها ويسمو بها، ويرتقى بالروح لسماوات جديدة، ويضع الجسد بشهواته وسقطاته فى موضعه الحقيقى. وعن حال المسلم بعد رمضان، وكيف له أن يغتنم الفرصة الرمضانية لتكون ذخيرة لعامه التالى يقول الدكتور توفيق نور الدين عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، أستاذ الرعاية المركزة بطب الأزهر: رب رمضان هو رب كل الشهور، وإن عبدت الله فى رمضان فقط، فتلك عبادة ناقصة، وإذا استطاع الإنسان أن يتغلب على شهواته فى رمضان، فلم لا يكون ذلك سائر العام؟ والله لا يريد منا أن نجوع له ونعطش، بل غاية ما يريده الله من الصائمين التقوى لترتقى أرواحهم وتسمو نفوسهم، وإن التقوى لا تكون فى رمضان فقط، فالناجح فى رمضان هو الناجح خلال العام، ولتجعل رمضان هو ديدنك خلال العام، فإن كنت تصلى وتصوم وتتصدق، فأفعال الخيرات لا مواسم لها، ومن جعل للخيرات مواسم فهو كمن يمنح ويمنع فضل الله على عباده، والتقوى لا تكون خلال رمضان فقط، وعلامات النجاح لا تكون خلال الامتحان، ولكن النجاح يأتى بعد الامتحان، وكذلك التقوى يجب أن تمتد لما بعد رمضان، ولاتسمحلشىء لأن يفسد عليك حياتك بعد رمضان. ومع نهاية شهر الصيام يقف الصائم بين الخوف والرجاء، خوفًا من التقصير فى أداء شعائر الصيام، ورجاء من ألا يتقبل عمله، فالمؤمن يكون حذرًا بعد شهر الصيام، وهو على خوف وأمل من أن يتقبل الله عمله، فالقبول ثمنه الجنة، ويحاسب نفسه لعله يكون آخر رمضان له فى الدنيا، ولهذا فالمسلم على رجاء من قبول الطيبات وحسن الخواتيم، وهو لهذا يكون شديد الحرص على أن يجعل من رمضان دستورًا لحياته يحافظ فيه على أهله ودينه، وإن حفظ لسانه فى رمضان فلا يلهيه الأمل بالتفريط فى غيره من الشهور، والإنسان على نفسه بصيرة، وهو أدرى الناس بحاله وأحواله، وعليه الاجتهاد فى كل العام كما كان خلال رمضان، وليكن رمضان عدتنا وذخيرتنا للعام كله، ويكون انطلاقة قوية نحو حياة جديدة نعيشها فى ظلال رحمة الله وبركاته. ويقول الدكتور محمود الصاوى وكيل كلية الإعلام بجامعة الأزهر: نصيحتى لكل صائم: إياك أن تنقلب على عقبيك بعد رمضان، كن ربانيًا، ولا تكن رمضانيًا فرب رمضان هو رب شوال ورب ذى القعدة وباقى الشهور، وإن عبدت ربك فى رمضان، فإذا انقضى الشهر رجعت لمستنقعات الآثام والمعاصى، يا من صام لسانه فى رمضان عن الغيبة والكذب والنميمة واصل مسيرتك فى دروب الطاعة، ويامن صامت عينه فى رمضان عن النظر للمحرم غض طرفك ما بقيت، يورثك الله فى قلبك حلاوة الإيمان ما حييت، وذم سلفنا الصالح هذا الصنف من الناس لما قيل لبشر الحافى: إن قومًا يجتهدون ويتعبدون فى رمضان، فقال: بئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا فى رمضان.. وسئلت السيدة عائشة رضى الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختص شيئًا من الأيام بعمل ما؟ قالت: لا.. بل كان عمله ديمة. ونحن على بعد سويعات من يوم العيد، اذكروا الأيتام خاصة، والأرحام عامة فى هذا اليوم، وأدخلوا على نفوسهم البهجة والفرحة والسرور، ووسعوا على الفقراء والمساكين والمحتاجين فى هذا اليوم.. لا تنسوا صدقة الفطر، أو زكاة الفطر، قدموها بنفس طيبة راضية سعيدة بالعطاء، اغنوا المحتاجين عن السؤال فى هذا اليوم، وأشيعوا البهجة والسعادة والسرور فى النفوس، وكل عام وأنتم فى خير وعافية. ووداع الشهر يكون بالإكثار من الخيرات فى العشرة الأخيرة من رمضان، بالإكثار من الصلاة والاستغفار وقيام الليل والمداومة على صلاة التراويح، ففيه ليلة تعدل فى حساب السنين ألف شهر، ولنعلم بأن كثرة قراءة القرآن تجلب المغفرة وتحقق العتق من النار، وإن صام المسلم الشهر بكل جوارحه سيرى فضل الله عليه كبيرًا، وسيجد إشارات إلهية باستجابة الدعاء، لذلك يجب الإكثار فى طلب المغفرة، والله لا يرد دعوة صائم احتسب الصيام له سبحانه وتعالى، وإطعام الطعام هو أفضل الصدقات، وإطعام المسكين والفقير تجلب على الصائم رضا ربه، وإن رضى العبد عن العبد رضى الله عنه، وصلة الرحم من مجلبات الغفران وزيادة الرزق وطول العمر، ومع مغادرة رمضان للمسلمين يكون الدعاء إلى الله بأن يقبل الله منهم الطيبات. وحول معنى الصيام بأنه شهر لتدريب النفس على إحساسها برقابة الله، وفرصة لكبح جماح النفس تحدث الدكتور حذيفة المسير مدرس العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر وقال: الجزء المهم فى فريضة الصيام أن الإنسان يشعر بأن الله مطلع عليه، وأنه لا يخفى عليه شىء، وأنه سبحانه سيجزيه خيرًا إن أطاع، وهو قادر على عقوبته إن عصى، والله فرض الصيام شهرًا واحدًا فى العام لأنه يعلم حقيقة النفس الإنسانية أنها تستطيع أن تتخذ من هذا الشهر زادًا لبقية العام، وكل مسلم ينبغى أن يخرج من رمضان وقد ازداد يقينًا بالله بأنه مطلع عليه فى سره وفى علانيته، ويكون أشد الحرص على ما يرضى الله من خلال حسن معاملته للناس من حوله، لأنه لا يتصور أن يبقى المسلم شهرًا كاملًا يصوم ويتصدق ويتلو القرآن مرة ومرات، ويمسك نفسه عن الرفث طوال شهر كامل، ثم مع ظهور هلال شهر شوال يخرج بعيدًا عن هذه الأخلاقيات، ويرحل بعيدًا عن هذه الطاعات، ومن يريد أن يفوز بأخلاقيات الشهر الكريم عليه أن يتخذ من رمضان فرصة ليسيطر بها على نفسه ويكبح شهواتها ويلجم مصارعها بحيث تكون النفس مطيعة لمرضاة الله، والنفس بحسب ما تتعود على الخير أو على الشر. ويضيف د . حذيفة ويقول: ولا أطالب المسلم بأن يستمر بعد رمضان بنفس الحماسة التى كان عليها خلال الشهر، لأن رمضان شهر فرصة، والإنسان يفعل فى أوقات الفرص ما لا يفعله فى غيرها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتقرب إلى ربه فى رمضان أكثر من غيره من الشهور، ولكن على الأقل أن ينبغى على المسلم أن يخرج من رمضان ويستمر على نفس الدرجة التى وصل إليها فى الارتقاء بسلوكه، وحسن معاملته وإخلاصه مع الله والناس، ولابد للمسلم أن يعيد حساباته فى رمضان ويحدد أهدافه، فالهدف ليس مجرد الصيام، وإلا كان أصحاب الرخص من المرضى والمسافرين هم أشد خسارة، ولكن من أهداف الصيام تطهير القلب وإصلاح النفس لصلاح العباد، ليبقى الناس آمنين بشرع الله مستمرين على ما يصلح حالهم ويطور مجتمعاتهم.