البيان المنسوب لمنفذ هجوم مسجدى نيوزيلندا برينتون تارانت الذى أسفر عن مقتل 50 مصليا أثناء صلاة الجمعة يستحق وقفة مطولة، لأنه مليء بالخلفيات والدوافع الفكرية التى صاغت عقليته وحركته لتنفيذ هذه الجريمة البشعة. جريمة نيوزيلندا تدق ناقوس الخطر وتفتح الباب لحقبة جديدة من الإرهاب. كما أنها تبدو عملا منظما، وراءه أفراد وخلايا وجماعات وتنظيمات، تجتمع وتنسق فيما بينها لمناهضة الهجرة على طريقتها الخاصة. لهذا فإن ما حدث فى نيوزيلندا من المتوقع تكراره فى أماكن أخرى من العالم. اليمين المتطرف.. النسخة الغربية من«داعش» يختبئ داخل غرف الإنترنت المظلمة اعتبر كثيرون أن مذبحة المسجدين لا تختلف كثيرا عما ينفذه تنظيم داعش الإرهابى فى أماكن متفرقة من العالم، ووصف مراقبون طريقة التنفيذ بأنها النسخة الغربية من ذلك التنظيم الإرهابي. يقول باحث نرويجى إن تنامى هجمات التطرف اليمينى حول العالم خلال العقود الثلاثة الماضية يصدر من المجتمعات الخاصة على الإنترنت، وإن التهديد الحقيقى لهذا اليمين يأتى من الذئاب المنفردة التى تختبئ فى الزوايا البعيدة داخل غرف الإنترنت المظلم. ويوضح الدكتور والباحث فى مركز الأبحاث بشأن التطرف فى جامعة أوسلو بالنرويج جايكوب رافندال فى مقال له بمجلة فورين بوليسى الأمريكية أنه من المستحيل استمرار مجموعة يمينية متطرفة وبطموحات إرهابية فى الديمقراطيات الغربية بسبب الرقابة وانعدام الدعم الخارجى وانعدام الملاذات الآمنة، الأمر الذى يضطر المتطرفين اليمينيين إلى العمل السرى كذئاب منفردة.وعزز رافندال وجهة النظر القائلة باستحالة نجاح «العمل الإرهابى الجماعي» داخل الديمقراطيات الغربية بفشل مجموعة اليمين المتطرف البريطانية المسماة مجموعة العمل الوطنى (ناشونال آكشن) التى يقضى قادتها ونشطاؤها أحكاما بسنوات طويلة من السجن فى بريطانيا حاليا، لذلك قال إن المفتاح لفهم التهديد الإرهابى اليوم هو البحث عنها تحت الأرض.ويرى الكاتب أن عدد الأحداث المميتة التى تحركها معتقدات اليمين المتطرف فى معظم الدول الديمقراطية الغربية يتجاوز عدد الهجمات التى يحفزها «التطرف الإسلامي». وقال رافندال إن الهجوم الإرهابى على المسجدين فى نيوزيلندا يثير تساؤلا عما إذا كانت هناك حركة سرية تضم مجموعة من الناشطين المتفانين الذين يعملون معا عبر التطبيقات المشفرة من خلال الإنترنت للإعداد للهجمات الإرهابية المستقبلية، مجيبا بأنه فى الوقت الحالى يمكن تبين آثار تدل على وجود مثل هذه الشبكات الدولية بين صفوف اليمين المتطرف. وتابع أن المواقع والأماكن المخفية فى عالم الإنترنت أصبحت أرضا خصبة تساعد على تنشئة المتطرفين من شتى الأصناف، ويشمل هذا مرتكب الهجوم الإرهابى فى نيوزيلندا الذى أعلن عن نواياه القيام بهذا الهجوم على صفحات منتدى إلكترونى، فضلا عن بثه تفاصيل جريمته مباشرة على موقع فيسبوك. شبكات منتشرة بعدة دول غربية وأضاف رافندال أنه يبدو أن بعض الدول توجد على أراضيها -عن غير قصد منها- شبكات سرية متطرفة تهتم بتسهيل الحملات الإرهابية ضد الأقليات أو الأعداء السياسيين أو الحكومة، وتمتلك العديد من هذه الجماعات روابط دولية، لعل أبرزها خلية «الاشتراكيون الوطنيون تحت الأرض» الإرهابية الألمانية. وأفاد بأن وجود مثل هذه الجماعات المتطرفة لا يقتصر على ألمانيا فقط، بل إن روسيا والولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا بها شبكات لليمين المتطرف السرية. ومنذ 1990 ارتفع عدد هجمات هذا اليمين القاتلة فى روسيا أكثر من أى بلد آخر، كما شهدت السويدوألمانيا عددا كبيرا من هذه الهجمات.ويقول الكاتب إن الديمقراطيات الغربية تواجه حاليا نوعين من التهديدات العنيفة من اليمين المتطرف، ففى حين يكون بعضها عفويا ومن جهات غير منظمة وباستخدام أسلحة مثل السكاكين والعصى والحجارة يكون البعض الآخر مقصودا ومخططا له من طرف خلايا مستقلة صغيرة، وعادة ما تكون باستخدام الأسلحة النارية والمتفجرات، وإن المسلمين باتوا هدفا لهذه الهجمات فى السنوات الأخيرة.وأشار رافندال إلى أنه إذا كان ما ذكره سفاح كرايست تشيرتش عن كثرة الأعضاء والمنظمات اليمينية المتطرفة التى تعمل سرا عبر الإنترنت صحيحا فإن ذلك سيمثل تطورا غير مسبوق فى التاريخ الحديث للإرهاب اليمينى، خاصة أن مثل هذه الشبكات الإرهابية الدولية لم تكن موجودة فى السبعينيات والثمانينيات. كيف تجذّرت العنصرية؟ قال موقع «ستف» الإخبارى النيوزيلندى إن العنصرية باتت متجذرة فى السياسة العامة السائدة فى أستراليا.وذكر الموقع فى مقال تحليلى حول الهجوم على مسجدين فى مدينة كرايست تشيرتش فى نيوزيلندا على يد متطرف أبيض أسترالى الجمعة الماضى، أن القومية البيضاء أضحت جزءًا من التيار السياسى العام فى أستراليا. وانطلق الموقع فى تحليله من تبنى وزير الداخلية الأسترالى بيتر داتون العام الماضى قضية المزارعين البيض فى جنوب إفريقيا، وأخذ على عاتقه مهمة تنوير الرأى العام فى بلاده بمحنتهم.وكان داتون قد وصف مزارعى جنوب إفريقيا البيض بالشعب المنسى والمضطهد فى بلده، موضحا أنهم قد يجدون العطف والعون الإنسانى من أستراليا.وأشار الموقع النيوزيلندى إلى مرور بعض الوقت منذ أن أعلن الوزير داتون أن أستراليا قد تستوعب مزارعى جنوب أفريقيا البيض ضمن برنامج الهجرة، بذريعة أنهم يتعرضون للاضطهاد فى وطنهم.وبحسب التحليل الإخبارى، فقد ظن مزارعو جنوب أفريقيا البيض أن ذلك الإعلان لا يعدو أن يكون فكرة وهمية مستمدة من العالم السفلى للإنترنت، الذى يزعم أن البيض مضطهدون ويعانون تحت وطأة العنصرية فى بلادهم من قبل غير البيض.غير أن الموقع الإخبارى أوضح أن فكرة استيراد مزارعى جنوب إفريقيا البيض إلى أستراليا سرعان ما انقشعت، لكن الفكرة التى ظل الإعلام يتناولها طوال أسبوع أو نحو ذلك، تُعد نموذجا جيدا للكيفية التى تتبدل فيها الآراء يمنة ويسرة بين السياسيين ووسائل الإعلام فيما يُعرف اصطلاحا فى الغرب ب«نافذة أوفرتون». الجارديان: «الإسلاموفوبيا» ضربت جذورها فى أستراليا كتب جيسون ويلسون فى مقال بصحيفة الجارديان البريطانية تعليقا على المذبحة وهو من أصول أسترالية- إن الكارثة جعلت الناس فى مسقط رأس مرتكب الجريمة يفكرون مليا ويتساءلون عن الكيفية التى أوصلت الأمور إلى هذا الحد، وعما إذا كان الجانى ينتمى إليهم حقا.ويرى أن هناك نقاشا مستفيضا يجرى على الصعيد الدولى عن دور ثقافة الإنترنت الثانوية واليمين المتطرف فى هجوم نيوزيلندا، وما تتضمنه تلك الثقافة من رموز وإشارات تشير إلى تفوق العِرق الأبيض. ولم يتسن التدبر كثيرا فى حقيقة مهمة، وهى أن أى شاب فى عمر الإرهابى سفاح المسجدين قد تربى فى أستراليا فى فترة شهدت تفشيا سريعا لمظاهر العنصرية وكراهية الأجانب والعداء للمسلمين، حتى تكرست فى الثقافة العامة للدولة.ولطالما عومل الإسلام والمسلمون فى أغلب الأحيان –إبان مشاركة أستراليا فى الحرب على الإرهاب- باعتبارهم أعداء للشعب، وراج خطاب التحريض على الكراهية ضدهم، بحسب مقال الجارديان.غير أن الكاتب يرى أن العنصرية فى أستراليا لم تنطلق عام 2001؛ فالقومية البيضاء كانت هى المبدأ الذى تأسست عليه الدولة، ثم توالت الأحداث خلال العام الأول من الألفية الثالثة، لتجد ظاهرة الإسلاموفوبيا عمليا طريقها لتصبح ثقافة عامة.وضرب الصحفى الغربى أمثلة على تنامى ظاهرة الخوف من الإسلام بما حدث لسفينة تامبا التى كانت تقل أكثر من أربع مائة لاجئ أفغانى وعراقى، حيث رفضت أستراليا السماح لها بالرسو فى موانئها.واعتبر جيسون ويلسون ذلك الرفض محاولة «مكشوفة» من جانب حكومة المحافظين آنذاك للفوز بالانتخابات، وذلك بالعزف على وتر الخوف من الغرباء، وقد نجحت الحيلة.ويمضى جيسون ويلسون إلى القول إن فى أستراليا الآن تشكيلة من المؤلفات والمقالات لقوميين بيض من مدونين معادين للسامية، إلى متسللين محتملين للأحزاب اليمينية الرئيسية. دوافع السفاح يقول السفاح نيوزيلندا فى رسالته إن دوافعه للقتل هى «تطهير الحضارة الغربية؛ حضارة الرجل الأبيض، من المهاجرين الغزاة الذين يزاحموننا فى معاشنا، ويغيرون من نمط حياتنا وقيمنا، ويرتكبون فى ديارنا الإرهاب فيفجروننا ويدهسون أبناءنا، كما حدث فى غير مدينة أوروبية، وكما شهدنا فى فرنسا واستكهولم حينما قتلوا المدنيين ومنهم الأطفال».ويورد برينتون وقائع «تاريخية» يستشهد بها، من ذلك: مسئولية المسلمين عن تجارة العبيد وبخاصة استرقاقهم للرجل الأبيض.والمعارك التى خاضتها الدولة العثمانية فى أوروبا، وما شهدته من وقائع انتصرت فيها مرات وهزمت أخرى، فيذكر بعضها وبعض القادة الأوروبيين الذين ناهضوا الوجود الإسلامى العثمانى التركى آنذاك، بل إنه كتب على أحد البندقيات التى استخدمها فى الهجوم «فيينا 1683» فى إشارة إلى المعركة التى هُزمت فيها الدولة العثمانية على أسوار فيينا، وأوقفت تقدمها نحو السيطرة على عاصمة إمبراطورية النمسا وبقية أوروبا.ويختم برينتون بيانه المنشور على صفحته بتويتر قبيل تنفيذ الهجوم بالقول: إنه شخص عادى، ومن عائلة عادية، ولم يكن محبا للدراسة، وإنه حصل على بعض المال من المضاربة فى عملة البيتكوين الرقمية، ويطلب من الأوروبيين البيض أن يحذو حذوه فى الخلاص من المهاجرين الغزاة بالقتل، وأن القتل هو «ميثاق الهجرة» الأمثل للتعامل معم، فى إشارة إلى الميثاق العالمى للهجرة الذى وقعه قادة العالم فى مراكش نهاية العام الماضى. مذبحة المسجدين.. عمل منظم أم حالة فردية؟ حصر المراقبون نقاشهم حول المذبحة فى النقاط التالية:- تبدو كعمل منظم، وراءه أفراد وخلايا وجماعات وتنظيمات، تجتمع وتنسق فيما بينها لمناهضة الهجرة على طريقتها الخاصة، وأن برينتون وأصدقاءه الذين ساعدوه جزء من هذه الحركة وذلك التيار، والذى يتخذ فى ألمانيا على سبيل المثال اسم «النازيون الجدد». ? لهذه الحركة وذلك التيار أيديولوجية (نسق فكري) يبلور لهم، ويبرر، ويؤطر، الهدف من التنظيم (تطهير أوروبا من الغزاة الجدد) ويحدد لهم «قيمة» هذا العمل الذى يجمعهم (حفاظا على حضارة الرجل الأبيض). ? المذبحة تربط الحاضر بالماضى، لتمنح لتيار العنف شرعية ليست مستمدة من «القيم النبيلة» التى يسعون إليها حاضرا فحسب بل إنها امتداد «تاريخي» للقيم النضالية التى ضحى الأجداد من أجلها حينما حاربوا الغزاة العثمانيين المسلمين الأقدمين قبل أربعة قرون.- مذبحة نيوزيلندا لا تقتصر خطورتها فقط على مقتل خمسين مصليا يمكن أن يموتوا لأى سبب من الأسباب، وإنما تنبع من كونها «بداية رد فعل منظم وممنهج ومؤدلج» للتعامل مع ظاهرة الجاليات الأجنبية فى البلدان التى تصنف نفسها ضمن الحضارة الغربية سواء أكانت فى «أقصى الشرق..!» كما فى أستراليا ونيوزيلند أو فى الغرب، بمعناه الجغرافى، ممثلا فى أوروبا وأمريكا الشمالية تاريخ مشترك لم ينقطع التواصل بين مجتمعات السكان الأصليين والمسلمين القريبين من السواحل الأسترالية فى الأرخبيل الإندونيسى لثلاثة قرون، وشمل ذلك التواصل توطد العلاقات الاجتماعية والمصاهرة.فمنذ أوائل القرن الثامن عشر الميلادى قام الصيادون المسلمون من إندونيسيا برحلات سنوية إلى الساحلين الشمالى والشمالى الغربى لأستراليا بحثا عن الرخويات البحرية ذات القيمة العلاجية والغذائية المرتفعة التى تسمى «خيار البحر»، وتطورت التجارة لتشمل سلعا عينية، ولكن الزوار المسلمين تركوا أيضا إرثا دينيا وثقافيا بقى فى الأغانى والرسومات.ويعود بعض الرحلات المؤكدة من الساحل الإندونيسى إلى السواحل الأسترالية لمنتصف القرن السابع عشر على الأقل، وهو تاريخ مقارب لاكتشاف الهولنديين لسواحل القارة -أول أوروبيين يصلون لسواحلها البعيدة- قبل أن يؤسس البريطانيون لاحقا أول مستعمرة عام 1788.وتؤكد أبحاث حديثة -بينها دراسة الأسترالى أيان س. ماكنتوش من جامعة إنديانا- وجود أشكال إسلامية فى بعض أساطير وطقوس السكان الأصليين بشمال أستراليا.وفى الشعائر الجنائزية التى تقيمها مجتمعات من السكان الأصليين لأستراليا، هناك إشارة إلى «اليثاوالثا»، وهى عبارة مشابهة للعبارة الإسلامية «الله تعالى». ولاحقا فى ستينيات القرن العشرين استقر العديد من رعاة الجِمال المسلمين الذين جاء أغلبهم من أفغانستان، وطوروا علاقات مع السكان الأصليين المحليين بينها العديد من الزيجات التى نتج عنها عائلات من السكان الأصليين تحمل أسماء مثل خان وأكبر، بحسب بيتا ستيفنسون زميل معهد آسيا بجامعة ملبورن.وفى ثمانينيات القرن الماضى هاجر العديد من الملايو المسلمين إلى شمال أستراليا عمالا محترفين فى صناعة اللؤلؤ البحرى، وتزوجوا أيضا من نساء السكان الأصليين ونتج عن ذلك عائلات مختلطة تعيش فى شمال أستراليا حتى الآن، وكان أول مسجد فى أستراليا قد بنى عام 1861 فى مارى، جنوبأستراليا على يد مسلمين من أصول أفغانية.وفى نيوزيلندا القريبة يوصف الإسلام بأنه الدين الأسرع نموا، إذ تشير الإحصائيات إلى أن عدد المسلمين الماوريين (السكان الأصليون لنيوزيلندا) زاد من 99 مسلما إلى 708 فى السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين حتى عام 2001، وإلى 1074 بحلول 2006.وفى بقية منطقة أوقيانوسيا، شهدت فانواتو وفيجى وجزر سليمان فضلا عن بابوا غينيا الجديدة وكاليدونيا الجديدة زيادة نسبية فى عدد المسلمين والمتحولين إلى الإسلام من السكان الأصليين فى العقود الأخيرة، لتصل فى فيجى إلى 7%.