بادرنى أحد الأصدقاء متسائلا فى غضب «ألا يستحق هذا مقالا؟»، فأجبت بالتأكيد، ولكن ليس هنا، ما يكتب فى الصحافة العربية نقرأه نحن، أى أننا نحدث بعضنا البعض، المطلوب مقالات هناك، بلغتهم لا بلغتنا كى يسمعوا صوتنا وحينها قد يفهمون ما نقول. أما هذا الذى قصده صديقى فكان حادث مقتل أكثر من خمسين مصليا مسلما فى مسجدين على يد متطرف يمينى مهووس وموتور غسل الإعلام الغربى رأسه ورسخ فيها ثوابت لا يسهل تصحيحها أو إزالتها، (القادمون من الشرق مهاجرون، كل المهاجرين مسلمون، كل المسلمين دمويون، كل الدمويين يستحقون القتل، تقرب إلى الرب بقتل مسلم)، تلك هى مفردات الإعلام الغربى وترجمته لما يتساقط عليه من أخبار وتقارير من العراق، سوريا، فلسطين، ليبيا، السودان، أفغانستان، باكستان، مصر، وغيرها ممزوجة بتحليلات المتطرفين وأنصاف صحفيين سمعوا ولم يروا، ورأوا ولم يناقشوا. يغزو الفكر اليمينى أوروبا، مارى لوبان وحزب الجبهة الوطنية فى فرنسا، خيرت فيلدرز وحزب من أجل الحرية فى هولندا، ماتيو سالفينى وحزب الرابطة فى إيطاليا، آلكسندر جاولاند وحزب البديل فى ألمانيا، سانتياجو باسكال وحزب فوكس فى اسبانيا، وغيرها من أحزاب اليمين المتطرف فى أوروبا، جميعها فازت بحصص ذات وزن فى برلمانات بلادها أو أقاليمها على الأقل فى تعبير عن توجه غالبية مواطنى تلك الدول إلى التطرف والنظرة العدائية الدونية لغيرهم، وتحديدا للأجانب ذوى الأصول العرقية المختلفة وبخاصة المهاجرين. نشأت هذه النزعات منذ سنوات طويلة دون أن يلتفت إليها أحد، ظن الجميع أنها مجرد فقاعة لا تلبث أن أو يجرفها التيار المعتدل إلى مساره، يوما بعد يوم كسبت مؤيدين جددا وصار لها لسانها الخاص. لسبب أو لآخر قفزت إلى ذهنى صورة باربارا شوماخر، صحفية ألمانية حرة، لا تعمل فى جريدة بعينها وتعيش على عائد مقالاتها وصورها، التقيتها بإحدى الدول العربية منذ نحو الشهرين وتطرق حديثنا إلى المنطقة فقالت (لى خمس وعشرون سنة وأنا أعمل فى المنطقة العربية، زرت كل البلاد ومكثت فيها، صعدت جبال اليمن، ونزلت سهول دجلة والفرات وصحارى مصر، وزرت الأماكن المقدسة)، حانت منى نظرة إلى غطاء رأسها ففهمت قصدى دون أن أنطق فبادرت (نعم، زرت مكة والمدينة وبيت لحم والقدس، أنا مسيحية كاثوليكية أومن باحترام الآخر، لا أنزل دولة عربية إلا وغطيت رأسى احتراما للدين والثقافة). تكتب باربرا، على حد قولها، فى كل شيء إلا السياسة، حين سألتها عن رؤية الغرب للمنطقة العربية أجابت (ما سأقوله لك يعكس قناعاتى الشخصية، الإعلام الغربى مملوء بالأكاذيب عن الشرق، كُتاب يملأون تقاريرهم الإخبارية ببيانات مستقاة من مواقع التواصل الاجتماعى والإنترنت، يترجمون الأحداث وفقا لأهوائهم ورؤيتهم، أكاد أجزم أن 99 بالمائة مما ينشر عن المنطقة سيئ و سلبى، لم يكلف صحفى واحد نفسه بالقدوم إلى هنا قبل أن يكتب، لم يعرف روحانيات الشرق وكيف تسرى محبتهم ومودتهم للجميع)، ثم أردفت (أنا لا أكتب بناء على أحاديث بالهاتف أو إرسال الاسئلة بالبريد الإلكترونى أو الواتس آب، كيف أكتب دون أن أنظر فى عين من أحدثه، أرى تعبيرات وجهه وتغير نبرة صوته وحركة يديه وهو يتحدث، كيف أتجاهل لغة الجسد)، سألتها كيف تكتبين؟، فقالت بصوت هادئ عصرت فيه خبرة عمر ناهز الأربعة والسبعين عاما (اذهب بعيدا، امكث طويلا، انظر عميقا، ثم اكتب). [email protected]