جربت أن تمشي بشارع وتعلم أنك تسير أعلي بناية سقف وتحتك عوالم أخري بكل ما تعنيه الكلمة من معان من حجرات مكمورة وسراديب أخفي أصحابها أسرار أعدائهم بها وأشياء أخري مستتره. تنظر إلي أرضية الشارع محاولا اكتناف الغموض أسفل أحجاره, تقع علي وجهك ظلال مبان ترك مشيدوها أنفاسهم بين أحجارها تشهد بإخلاصهم أبد الدهر, وكيف توصف أحجار هي أبلغ من تتحدث عن نفسها, أبنيه تمر أمام عين الناظر اليها سيرة حياة أحمد بن طولون وتغري بردي والأمير صرغنمش نبض حي مازال يدق يخزي كل من يتطاول علي الحضارة الاسلامية, مرتفع تستقبله الشمس كل صباح تفرد ضوءها عليه وتلقي تحيتها عند الغروب لتوصي القمر أن يقوم بمهمته ليلا إلي أن تعود انه شارع الصليبة العريق, سرة مدينة القطائع الطولونية سابقا يبدأ الشارع من ميدان السيدة زينب بشارع عبدالمجيد اللبان مراسينا سابقا علي يمينه أحد الأسبلة المهجورة والمهملة بكل أسف نقش علي بابه سبيل لوجه العاطي بغير حساب اغفر لي يوم الحساب بخط ثلث بارز لحظة قراءتها كأنك تري صاحب السبيل أمامك يحني رأسه يقدم لك الماء في هدوء وبعده علي اليسار مسجد الأمير لاجين السيفي تميزه مئذنته القصيرة وهو مسجد صغير بناه الأمير المملوكي لاجين السيفي سنة853 ه يليه علي اليمين أثر شامخ من أندر وأغرب آثار القاهرة لارتفاع مدخله عن الشارع بنحو ثلاثة أمتار ولخروجه علي ثلاثة شوارع يطل علي شياخات مختلفة في هندسة عجيبة إنه مسجد وخانقاه الأميرين سلاصر الناصري وسنجر الجولي صاحب المئذنة الشامخة وقبتيه الكبيرتين والذي بناه الأمير سلاصر الناصري سنه703 ه والمصنف من المساجد المعلقة, ذات الغياب المزينة بالكتابات والزخارف البارزة, وإذا أكملت سائرا في الشارع الزاخر تري عن يمينك أثرا لا يقل شموخا عن سالفه, وهو مسجد ومدرسة ست أفدنة الأمير صرغتمشي والذي أنشأه757 ه- ليكون مسجدا ومدرسة للحديث والفقه الحنفي, والذي يملأ رحابه سكنية نادرة تعكس روعة التصميم وجمال الزخرفة المتشابكة البديعة, القباب وما ان تخرج منه وتتجه يمينا حتي تري القلعة العملاقة الجاثمة خلفه, وهي جامع أحمد بن طولون أقدم مسجد احتفظ بتصميمه الأصلي دون تغير حتي الآن علي عكس جامع عمرو بن العاصي الذي محت التجديدات معالمه الأصلية, وأنشأه الأمير أبو العباس أحمد بن طولون سنة263 ه ويعد أكبر مسجد في القاهرة حيث تبلغ مساحته حوالي ستة أفدنة, ويتميز هذا المسجد بطرازه العباسي وانفراده بثلاث تحف معمارية لانظير لها في أي مسجد في العالم, المحاريب الجصية وهي خمسة غير مجوفة تعود إلي عصور مختلفة وأيضا السور الخارجي للمسجد والمساحة المرتفعة بين السور والمسجد ليجد المصلون أجواء المدينة الخارجية لبث الخشوع للمصلين أما مئذنته الملوية ذات السلم الخارجي فلا نناظرها في فخامتها إلا مئذنة سامراء الملوية وتنفرد هذه عنها بقاعدتها المكعبة وشرفتها المستديرة وبجوار ابن طولون بيت الكريدلية العثماني وتمر في الشارع بين بيوته وحوانيته وكل درب فيه له حكايات تستحق التروي عندها. تغري بردي إلي أن تصل إلي مسجد المؤرخ الشهير ابن تغري بردي صاحب الموسوعتين التاريخيتين الخالدتين النجوم الزاهرة في تاريخ مصر والقاهرة والمنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي, وأنشأ ابن تغري بردي مسجده سنة844 ه. سبيل أم عباس إلي أن تصل إلي لؤلؤة الآثار الاسلامية النادرة في مصر حسب تصنيف هيئة اليونسيف بالأمم المتحدة انه سبيل أم عباس والذي يعود لعهد الخديوي عباس حاكم مصر وأوقف هذا السبيل علي روح والدته ليشرب منه الناس الماء المبرد والمحلي بماء الزهر والورد, وليأخذ المسافرون بعض الراحة والطعام فيه بالمجان وهو واقع علي ناصية شارع الصليبية, وهو عبارة عن مبني يحتوي علي طابقين الأول عبارة عن بئر محفورة في الأرض يجمع بها ماء الامطار أو ماء النيل يعلوه غطاء أو سقف من الرخام, أما الطابق الثاني فيرتفع عن سطح الأرض وتسمي حجرة اتسبيل لتوزيع الماء علي الراغبين ويقوم المزملاتي( الشخص المعين من قبل منشئ السبيل لرفع المياه من فتحة البئر) برفع الماء من البئر بواسطة قنوات تجري تحت البلاط المصنوع من الحجر الصلب وينتهي الماء إلي فتحات معدة لرفع الماء, في هندسة بارعة. ماء معطر وكان الماء يرفع من تلك الفتحات بواسطة كيزان مربوطة بسلاسل مثبتة بقضبان النوافذ وكانت تعمل بواسطة بكرة فوق البئر محمولة علي خشبة مربوط بها حبل, وكان بطرف الحبل سطل يرفع به المزملاتي الماء إلي القنوات الموجودة تحت بلاط المزملة فيجري إلي النوافذ القائمة عند فتحات القنوات, وكان طالب الماء يصعد علي سلالم موجودة أسفل كل نافذة إلي حيث يجد الماء فيحصل علي حاجته بالكوز ماء مبردا معطرا يفطر عليه الصائمون في رمضان ويدخلون تكية مجاورة يفطرون ويظل السبيل يتزود منه الناس بالمياه مجانا في كل المواسم, ويشهد التاريخ انه كان لسبيل أم عباس وظيفة اخري مهمة هي( التعليم) فكان يلحق بالجزء العلوي منه كتاب ليتعلم فيه النشء مبادئ القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن وكان كتابا مجانيا للجميع.. شارع الصليبة الآن الذي بدلا من تحويله إلي مزار أثري مفتوح علي غرار شارع المعز لدين الله الفاطمي, أصبحت كومات القمامة به متناثرة بشكل مغري للنازحين عن البحث والتنقيب عن النفايات والكرتونات وخلافه وأصبح مقصدهم هذا الشارع خاصة سبيل أم عباس الذي تحولت واجهته لمركز تجميع القمامة بكل أنواعها, وكأن من يلقيها قد عميت عيناه فلا يري النقوشات والآيات القرآنية المطلية بالذهب تتولي الرياح تنظيفها كل يوم في رسالة واضحة لكل ذي لب ولكن يبدو أن الرسالة لم تصل بعد للمسئولين بالآثار.