ثمة كثيرون يطرحون تساؤلا جوهريا في هذا الصدد, هذا التساؤل يقول.. هل الجوع في العالم ظاهرة طبيعية عادية أم مصطنعة؟ قد يكون من الأفضل قبيل محاولة الإجابة عن هذا التساؤل رسم مايمكن وصفه بخريطة الجوع في العالم. تؤكد تقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة والمعروفة اختصارا باسم فاو أن السواد الأعظم من الجوعي في العامل يعيشون في منطقة آسيا والمحيط الهادي إذ يبلغ عدد الجائعين في هذه المنطقة خمسمائة وثمانية وسبعين مليون شخص, ثم تأتي منطقة جنوب الصحراء الكبري في القارة الإفريقية في المرتبة الثانية بعدد جوعي يبلغ مائتين وتسعة وثلاثين مليون نسمة, ثم منطقة أمريكا اللاتينية الكاريبي بعدد جائعين يبلغ ثلاثة وخمسين مليون شخص, ثم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعدد جوعي يبلغ سبعة وثلاثين مليون إنسان, ثم اخيرا ثمة جوعي في الدول المتقدمة نفسها يبلغ عددهم تسعة عشر مليون شخص. هناك من يقول إن في العالم فعلا مايمكن ان نسميه صناعة الجوع بمعني أن هناك قوي كبري في العالم سياسية واقتصادية ليس من مصلحتها القضاء تماما علي ظاهرة المجاعات في العالم. لنمضي معا مع هؤلاء الذين يتهمون بأنهم اصحاب مايعرف بنظرية المؤامرة لنتعرف معهم علي ما قد يكون مؤشرات ربما تكشف جانبا من التفاصيل الغامضة لظاهرة الجوع والجوعي في الأرض. لنعد بالتاريخ بعض الشيء وبالتحديد في أوائل سبعينات القرن المنصرم عندما كان داهية السياسة الأمريكية الكبير دكتور هنري كيسنجر يتربع علي عرش صناعة السياسات الكبري للإمبراطورية الأمريكية الصاعدة انذاك. خطة كيسنجر ففي ذلك الوقت قدم كيسنجر مذكرة للإدارة الأمريكية مفادها أن هناك ثلاث عشرة دولة في العالم تشهد انفجارا سكانيا وهي: الهند والصين وبنجلاديش وباكستان وإندونيسيا وتايلاند والفلبين وتركيا ونيجيريا ومصر وإثيوبيا والمكسيك والبرازيل. وقال كيسنجر أن تزايد عدد سكان هذه الدول وغيرها من الدول الفقيرة والمعدمة مثل الصومال يشكل تهديدا للمصالح الاستراتيجية الأمريكية علي المدي الطويل فعلي سبيل المثال فإن الزيادة السكانية في الصين من شأنها تهديد المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في كوريا وتايوان واليابان. وكان الحل الأمثل الذي اقترحه هذا الداهية السياسي متمثلا في إشعال مجاعات لإجبار هذه الدول علي تحديد نسلها وأيضا زرع بذور حروب تنطوي علي جرائم تطهير عرقي واسعة النطاق حتي تتخلص واشنطن من أكبر عدد ممكن من هؤلاء الناس الذين قد يشكلون في المستقبل ألد اعداء مايعرف بالإمبريالية الأمريكية علي وجه الخصوص والهيمنة الغربية علي وجه العموم. مخطط تدميري الدول الغربية الأخري دخلت علي خط هذه اللعبة إذ يبدو الآن كما لو كانت هذه الدول تتعمد تدمير الزراعة في الدول النامية التي يشكل النشاط الزراعي عماد اقتصادياتها الهشة أصلا. فعلي سبيل المثال تخصص دول الاتحاد الأوروبي ستين مليار يورو سنويا أي ما يقرب من خمسة وثمانين مليار دولار لدعم المزارعين الأوروبيين بحيث تكون أسعار منتجاتهم الزراعية أرخص من أسعار منتجات الفلاحين البؤساء في الدول الفقيرة وهو مايجعل الفلاح الفقير عاجزا عن ييع محصوله ليضطر في نهاية المطاف للتوقف عن الزراعة وهكذا تبدأ عملية تدمير الإنتاج الزراعي في البلدان المعدمة لتجد هذه البلدان في نهاية المطاف نفسها مضطرة إلي بيع أراضيها بأبخس الأثمان للشركات الغربية الكبري التي تنقل خير أراضي الأقطار الفقيرة إلي خارجها وأمام أم أعين الجوعي من أبنائها. ووصل الأمر بالدول الغربية الكبري إلي حد طرح سلع زراعية في الأسواق العالمية بأقل من سعر تكلفتها كي تجبر المزارعين البسطاء من أبناء الدول الفقيرة علي الخروج نهائيا من هذه الأسواق لتقوم القوي الكبري بعد ذلك بممارسة أبشع طرق الاحتكار في العالم بل والمضاربة علي أسعار المواد الغذائية الاستراتيجية مثل الحبوب لترتفع أسعارها إلي عنان السماء( وصلت أسعار المواد الغذائية خلال عامي ألفين وسبعة وألفين وثمانية إلي أعلي مستوياتها في التاريخ جراء المضاربات الجشعة التي قامت بها المؤسسات المالية الغربية الضخمة علي أسعار هذه السلع وبنفس الطريقة التي كانت تضارب بها علي الأسهم والسندات والذهب والنفط). قد تكون ثمة دول قد أفلتت بالفعل من قائمة كيسنجر لكن هناك دولا مازالت ضمن هذه القائمة وأصبحت مهددة في أمنها الغذائي القومي بشكل ربما لم يسبق له مثيل في تاريخها ومن بينها مصر وإثيوبيا. بل حتي السودان الذي يوصف بأنه سلة غذاء ممكنة للعالم العربي برمته أصبح يستورد الكثير من حاجاته من الحبوب خرافة الندرة كما يلعب الإعلام العالمي المتحيز لمصالح الغرب دورا هائلا في عملية صناعة الجوع في العالم وفق كثيرين. فهذا الإعلام يروج حسب هؤلاء لما يعرف بخرافة الندرة أي بالايحاء بأن العالم يعجز عن إنتاج مايكفيه من سلع غذائية وهي نفس الفلسفة التي كان يتبناها الباحث الاقتصادي والسكاني الإنجليزي توماس مالتوس في أواخر القرن الثامن عشر. وتتلخص الأفكار التي تتضمنها نظرية مالتوس للسكان في النقاط الأساسية التالية: 1 يتحدد عدد السكان ويعتمد علي كميات السلع الغذائية الضرورية لاستمرار الحياة واشار مالتوس في هذا الصدد إلي أن كميات الغذاء هذه تتزايد في شكل متوالية عددية أي زيادة تدريجية بطيئة. 2 ولكن في المقابل نجد ان عدد السكان في العالم يتضاعف علي شكل متوالية هندسية أي في صورة قفزات تتضاعف فيها اعداد السكان بشكل مذهل. 3 ويشير مالتوس في نظريته السكانية الي وجود نوعين من الموانع يعملان علي الحد من الزيادة السكانية هما: موانع قهرية مثل المجاعات والأمراض والحروب وتنتشر هذه النوعية من الموانع في الدول النامية الفقيرة وتقضي علي جزء من السكان يعود بعدها التوازن بين السكان وكميات الغذاء. موانع وقائية مثل الامتناع عن الزواج أو تأجيله وتسود مثل هذه الموانع في الدول الصناعية المتقدمة وينتج عنها في النهاية توازن بين عدد السكان وكميات الغذاء أو هكذا قال مالتوس. ورغم ان العلم الحديث دحض بشدة كلام مالتوس بحجة بسيطة للغاية وهي ان التطور التكنولوجي اثبت قدرته علي زيادة إنتاج وإنتاجية البشرية من السلع الزارعية إلا أن الإعلام العالمي مازال يستغل خرافة المالتوسية في التمهيد للمضاربة علي أسعار الغذاء بشكل يتسبب بين الحين الآخر في رفع اسعاره بنسب لم يسبق لها مثيل ومما زاد الأمر تعقيدا ماصار يعرف بصناعة الوقود الحيوي حيث يعمد الغرب الآن إلي استغلال عدد من المحاصيل الإستراتيجية مثل الذرة وقصب السكر والقمح في صناعة نوع من الوقود في محاولة من هذه القوي للاستغناء عن النفط ومشتقاته من أجل ضرب النفوذ الذي تتمتع به الدول النفطية الكبري ومنظمة البلدان المصدرة للبترولأوبك هذه الدراما ألهبت أسعار الأغذية التي يعيش عليها الفقراء في البلدان الفقيرة وتسببت ضمن عوامل أخري في معاناة العالم من أسوأ موجة غلاء معيشي منذ عقود طويلة. كما يساهم تهاوي سعر صرف الدولار الأمريكي أمام العملات الرئيسية الأخري( مثل اليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري) في المزيد من صعود أسعار المواد الغذائية إذ أن الغالبية الكاسحة من تجارة الأغذية العالمية تجري بالدولار. الإنتاج العالمي يكفي البشرية. وهناك من الخبراء من يقول إن الإنتاج العالمي من القمح والأرز مثلا حتي بمستواه الراهن يكفي البشرية بل ويفيض عن حاجتها إذ أن هذا الإنتاج( إنتاج القمح والأرز علي وجه التحديد( كفيل بمنح كل شخص في العالم ألفا وسبعمائة سعر حراري يوميا فيما قد لايحتاج الشخص العادي اكثر من ألف وخمسمائة سعر حراري فقط( يحتاج الشخص العادي مابين1500 و2500 سعر حراري يوميا حسب عمره ووزنه). أكثر من ذلك فقد أفاد تقرير لمنظمة أكشن ايد وهي منظمة دولية غير حكومية أن خسائر الدول الفقيرة من جراء ظاهرة سوء التغذية تقدر ب3500 مليار يورو) أي مايعادل450 مليار دولارا سنويا. ويمثل هذا المبلغ عشرة أضعاف الأموال المطلوبة لتلبية الهدف الأول مما يعرف بأهداف الألفية للتنمية التي حددتها الأممالمتحدة في عام2000 والرامية الي تقليص عدد الأشخاص الذين يعانون من الفقر إلي النصف بحلول.2015 وتعتقد منظمة اكشن ايد ان مبلغ ال350 مليار يورو سنويا يمثل الخسارة التي تتكبدها هذه البلدان المعدمة جراء عوامل منها: الوفيات المبكرة وتدني قدرات القوي العاملة. وإجمالا فإن سوء التغذية المزمن زاد عموما في العالم بنسبة20% مقارنة بعام الفين باختصار اوضحت منظمة اكشن ايد انه خلافا للوعود البراقة للدول الكبري فإن سدس البشرية لايشبع جوعه.. رغم ان العالم ينتج مايكفي من الغذاء لكل الرجال والنساء والأطفال علي الكرة الأرضية. وتؤكد هذه المنظمة ان السبب الحقيقي للجوع في العالم ليس نقص الغذاء, وإنما نقص الإرادة السياسية. ودعت المنظمة الدول الغنية إلي تقديم16.8 مليار يورو)22 مليار دولار( لمكافحة الجوع في العالم. وكانت الدول السبع الأكثر تطورا في العالم) الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وإيطاليا وكندا( قد تعهدت في يوليو من عام2009 أثناء قمتها في لاكويلا بوسط إيطاليا بتقديم نحو20 مليار دولار علي مدي ثلاثة أعوام للأمن الغذائي العالمي ولكن هناك من اتهم الولاياتالمتحدة بأنها تحاول استغلال هذه المؤتمرات لتسويق إنتاجها من الأغذية وراثيا التي تحيط بها الكثير من الشكوك. وفي غالبية القمم التي نظمتها القوي السياسية والاقتصادية الكبري في العالم بشأن الجوع في الأونة الأخيرة كانت هذه القوي تتعمد عدم تحديد أي جداول زمنية لزيادة المساعدات الزراعية للدول النامية. كما لم تستجب هذه القوي لمقترحات المنظمة الدولية للأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة) فاو( بزيادة هذه المساعدات إلي44 مليار دولار سنويا للقضاء علي ظاهرة الجوع في العالم نهائيا. باختصار بدا انه من السهل للغاية بالنسبة للقوي الكبري في العالم انفاق تريليونات الدولارت علي إنقاذ المؤسسات المالية الجشعة التي تسببت في الأزمة المالية العالمية لكنها في المقابل تحجم عن إنقاذ نسبة تافهة من هذه التريليونات لإنقاذ ملايين البشر من الهلاك جوعا في مناطق تعد الأخصب في العامل