في نهاية المقال السابق طرحنا هذا السؤال؟لماذا تم التركيز علي دائرة( الدين) وهي إحدي دوائر القرآن الكريم وصرفت الأنظار عن دائرة( الثقافة) ودائرة( العلم)؟ في البداية, فإن هذا التقسيم الذي أعرضه عن محتوي القرآن الكريم لا أقصد به أكثر من مجرد التوضيح والبيان, لأنك لا تستطيع أن تفصل كل دائرة عن الأخري, فالقرآن كتاب ذو وحدة عضوية لا نظير لها, ومع هذا يمكن لنا أن نميز فيه بين ثلاث دوائر: الدائرة الأولي: دائرة( الدين) وهي الدائرة التي تحدد علاقة الإنسان بخالقه, وعلاقته بكل ما يحيط به من بشر وكائنات وأشياء. الدائرة الثانية: دائرة( العلم) بمعناه الكوني الشامل وليس مجرد العلم الديني فقط. الدائرة الثالثة: دائرة( الثقافة) وهي الدائرة التي تحدد شخصية الأمة وقيمها وأخلاقها وتقاليدها وطرق معيشتها وآدابها وفنونها, وتقدم ما يسمي بالرؤية الإسلامية للكون والإنسان والحياة. وقد اشتمل القرآن الكريم علي مجموعة كبيرة من القيم والأخلاق التي توجه السلوك الإنساني في كل جوانب الحياة سواء فيما يتعلق بالمال أو بالمعاملات والعقود أو بالعقوبات والحدود, وهذه القيم والأخلاقيات كانت جزءا من الدين ثم أصبحت أعرافا اجتماعية, وسلوكا اجتماعيا تتناقله الأجيال, وهنا يتحول مفهوم( الحرام) الديني إلي مفهوم( العيب) الاجتماعي, وإذا ما أصبح عيبا, هنا يصبح الدين( ثقافة) تعبر عن أعلي درجات الاستقرار في أحوال المجتمع, وتعبر أيضا عن حضور الدين في سلوك البشر بصورة عملية, وتكون القيم الأخلاقية من الرحمة والتسامح والتعاون والحرية والإخاء والمساواة بمثابة( الثقافة) التي تستمد قيمتها من ارتباطها بالمقدس الديني وليس مجرد حكمة السابقين أو السوابق الاجتماعية, وتكون بذلك أكثر إلزامية وتأثير في حياة المجتمع, لوجود نوع من الثواب أو العقاب الأخروي بشأنها. والناظر في المجتمع المصري, وكذا المجتمعات العربية, التي توجد فيها أديان متعددة يجد أن العرف الاجتماعي يتطابق مع الإسلام والمسيحية, وأن المجتمع يمتلك منظومة أخلاق وثقافة اجتماعية يستحيل معها أن تفرق بين مسلم ومسيحي, وهذا ما جعل اللورد كرومر أثناء الاحتلال البريطاني لمصر يقول في مذكراته( إن القبطي المصري اكتسب خصائص أخلاقية يتصف بها المسلم المصري, وأن هذا الاكتساب يرجع إلي ظروف لا تتعلق بالاختلاف في العقائد..). وهذا أيضا ما جعل أحد كبار رجال المحاماة المسيحيين يقول: أنا مسيحي الديانة مسلم الثقافة) بل وهذا أيضا ما دفع بعض المسيحيين إلي أن يتعلموا في مدارس الأوقاف والأزهر, ولذلك كان الإسلام من ناحية, والمسيحية من ناحية أخري, وكان الامتزاج الحضاري بين المسلمين والأقباط في مصر, كل ذلك مما كون المناخ التاريخي والحضاري والاجتماعي والثقافي والنفسي لبلورة المفهوم القومي للجماعة الوطنية المصرية.