قد يشعر الإنسان أن الحياة ملك يمينه, ويغتر بها إلي حد الهوس ولا يجني من وراء ذلك إلا خسرانا كبيرا, وهذا ما ترسخ في ذهني عندما قرأت حكاية رماد اليأس وكيف اغترت هذه السيدة بالدنيا حتي غرقت في الوحل آثمة بما فعلت غير قادرة علي الندم أو إيجاد حل لما هي فيه من أزمة لا يعلم مداها إلا الله ولكني عندما قرأت حكايتها وجدتني أنظر لنفسي وما قضته علي الحياة من قدر لست متمردة عليه ولا ناقمة علي الدنيا التي فرضته علي فقلبي مازال عامرا بالإيمان راضيا بحكمة الله في خلقه ولكني تفهمت من حكاية رماد اليأس كيف كانت صاحبة الحكاية تافهة ضعيفة مستسلمة لآليات نفسها الأمارة بالسوء وكيف كنت أنا عندما اعتصرتني الدنيا بأقدارها القاسية وأيقنت أن الله سبحانه وتعالي أمدني بقوة لا نهائية من الصبر والجلد والتحمل في صبايا كانت حياتي أشبه ما تكون بفتاة الرماد هذه وحيدة أبوي, مدللة, لا يرفض لي طلب, أتمتع بجمال يميزني عن غيري من الفتيات وفوق كل هذا كنت متفوقة في دراستي, لا أعاني أي ضغوط نفسية أو اجتماعية ومثلي مثل كل فتاة أحلم بفارس الأحلام الذي يتسم بمواصفات خاصة جدا تتناسب مع رومانسيتي الحالمة. ورغم فقر خبرتي بالحياة لم أكن أخشي من شيء فقد كان والدي يوجهني طول الوقت وأستمع له وأنفذ ما يقول وإن لم أقتنع برأيه ورغم أني متأكدة إن فرضت عليه رأيي ولو كان خاطئا سوف ينفذ لي ما أريد, وبالتالي عندما عرض علي عريسا هو ابن أحد أصدقائه ووصفه لي بأنه لقطة ومناسب لي وأنه ابن ناس هادئ الطبع, لم أتردد لحظة في قبوله وأكون كاذبة لو قلت إن الأمر بيننا اقترب من دائرة الرومانسية أو العواطف فقد كان جامدا لا يعرف غير العمل ومعايشة الحياة بجدية صارمة إلي حد التزمت ولم أشعر برفض لهذه الحياة بل حاولت أن أتعايش معه مستندة إلي رومانسيتي أنا لخلق نوع من العشرة الطيبة بيننا وشيئا فشيئا بدأت حياتنا تأخذ طابعا آخر أكثر حرية وسعادة بمقدم طفلي الأول قرة عين لي وله وللأمانة وجدته يجتهد في إسعادي والصغير عكس طباعه السابقة, أكثر من خروجنا للنزهة وأغدق بشكل ملحوظ علي البيت ونفقاته, غلبت عليه سعادته بابنه طباعه الجامدة التي اعتاد عليها. حمدت الله كثيرا علي استقرار بيتي وسعادتي فيه, يترسخ في يقيني أن الحب الحقيقي ليس مجرد خيالات وأحاسيس تجوب الوجدان سهادا وشوقا وكلاما معسولا بالهوي إنما هو حياة حقيقية نتعايشها ودا وعشرة طيبة, وبدأت أحب زوجي بهذا المنطق الذي ارتحت له مع نفسي وأحببت بيتي وابني وأخذتني أحلامي للمستقبل وكيف لي أن أري صغيري وقد شق طريقه في الحياة أهداني أحفادا أسعد بهم. هكذا كانت حياتي هادئة بسيطة لم يعكر صفو أيامها غير مرض لعين تسرب إلي حياتي واستوطن جسدي ما انطفأت معه نضرة الشباب في وجهي وذابت أحلام المستقبل في آتون المستحيل, إحساس اليأس سيطر علي كل شيء بعد أن أحكم السرطان سطوته علي وأخذ ينهش روحي شيئا فشيئا حتي تأتي لحظة النهاية, الصدمة كانت كبيرة أقوي من أن يتحملها بشر, كيف لك وأنت تحيا هانئا مستقرا تجد نفسك أمام فك مفترس يوشك أن يقضي عليك بلا سابق إنذار وكان حتما علي أن أخوض مشوارا طويلا من العلاج بالكيماوي فقدت خلاله كل ملامح أنوثتي ونضرة شبابي, تحولت إلي شبح امرأة ما جعل زوجي ينفر مني, هو لم يصرح لي بذلك ولم يدخر جهدا أو مالا لمساعدتي ولكنه الواقع يخفيه في صدره والذي أحسسته في عينيه وأنا علي باب غرفة العمليات قبل دقائق من استئصال ثديي موطن الورم, كان وجهه مسودا قاتما رغم البشاشة المصطنعة يحنو بها علي وقررت ساعتها أن أريحه بعد أن أخرج من العملية وكان لي ما أردت نجحت الجراحة وتم استئصال المرض ولكن كان علي أن أخوض رحلة علاجية طويلة لا أدري إن كنت سوف أنجو بعدها مما أنا فيه أم لا. في تلك الليلة اجتمعنا أنا وزوجي وابني الذي لم يتجاوز السنوات العشر علي العشاء لا يعلمان أنه العشاء الأخير ففد عزمت أمري وطلبت من زوجي الانفصال ورغم إحساسي الصادق بضيقه من حالي إلا أنني صدقت إحساسه بالصدمة وأسعدني إصراره علي الرفض ولكني قلت له إني سأعود لبيت والدي وليس مهما أن يطلقني أو لا ولكني أريد أن أخوض تجربتي القاسية بمفردي ولا أريد له أو لابني أن يرياني في هذه الحال إلا بعد أن يتم الله شفاءه علي وبكل قوة نفذت ما أردت وعدت لبيت والدي وها أنا ذا أمضي في طريقي بقوة وجسارة لم أعهدها في نفسي, وهبني إياها المرض, كانت إرادتي أقوي من المرض وشراسته وبداخلي عزم أن أهزمه, بضعة شهور مضت لم أر فيها أحدا ولا أخرج من بيتي إلا لجلسات العلاج حتي ابني لا أراه, أقسو علي نفسي وعلي أمومتي حتي لا ينخلع قلب ابني علي أمه ولكن يبقي الأمل هو نقطة الضوء الأخيرة في حياتي أستمد منه اليقين في رحمة الله وعفوه وشفائه ولعل المرأة التي استسلمت لشيطان غرائزها تدرك من حكايتي قيمة الحياة التي استهترت بها وضيعتها وضاعت معها وتنقذ نفسها بالأمل الأخير في رحمة الله وغفرانه وتتخذ القرار الصحيح وإن كان صعبا أو مستحيلا فهي عليها واجب نحو طفلها وزوجها ولابد من المواجهة وأن يتحمل كل ذي مسئولية مسئوليته, وأنا عندما اتخذت قرارا بالابتعاد عن فلذة كبدي وزوجي ألم يكن قرارا صعبا بل مستحيلا لكني اتخذته بإرادة قوية حتي لا أحملهما ما لا يطيقانه. أكتب لك سيدي وأنا علي فراش المرض لا أعرف إن كنت سوف أنهض منه شفاء أم لا ولكن لعل سطوري تبعث الأمل في نفوس يسكنها اليأس وتضيء ولو نقطة ضوء أخيرة في نفوسهم تبعث فيها الأمل ويستضيئون بها في الطريق المظلم الذي يعيشون فيه. م. ب. القاهرة قوة الإرادة لعل صدق الإيمان في قلبك لهو العامل الأكبر لقوة الإرادة في نفسك ما جعلك يا ابنتي تواجهين أصعب المحن وأقساها بكل هذا الصبر وتلك الإرادة الناجزة وما الحياة نحياها إلا مكابدة لمقتضياتها والأقدار المكتوب علينا أن نمر بها وذلك بنص قول الله عز وجل لقد خلقنا الإنسان في كبد وبقدر الصبر والكفاح من أجل تجاوز هذه المحن تكون الرحمة من المولي عز وجل. قلبي معك يا ابنتي وكل الدعاء لك بتجاوز المحنة والشفاء ولكني لست معك فيما أخذتي من منحي صارم وقاس بالابتعاد عن زوجك وولدك فهم أقرب الناس والأولي بالوقوف إلي جوارك وإمدادك بالطاقة الإيجابية لما أنت فيه فابنك مهما صغر سنه ومهما تكن محنتك قاسية عليه فهي في النهاية تجربة حياتية أراد الله له أن يمر بها لكي تثقل من شخصيته في المستقبل وتدعم إحساسه بالمسئولية نحو أمه فلا تخشي عليه. أما ما استشعرتيه نحو زوجك وقنوته وضيقه من ظروفك الصحية فهو في رأيي ليس إلا إحساس خاطئ وبحسب قولك إنه لم يدخر جهدا ولا مالا في مساعدتك فكيف يكون علي هذا النحو من السلبية ولعلك نسيتي تلك الملامح الجامدة لشخصيته والتي وصفتيها لي في رسالتك وكيف يعايش حياته بهذا الجمود أفلا يكون ما استشعرتيه ليس إلا جمودا من ملامح شخصيته الجامدة وليس رفضا لواقع مرضي ليس لك ذنب فيه. تروي في الحكم علي زوجك ولا تظلميه ولا تجعلي ما كان بينكما من طعام عشاء أخيرا ولكن أملا جديدا لاستعادة استقرار بيتكم وهناءة حياتكم وسعادتكم ولنا في قول رب العزة من كلام في محكم آياته العبرة والعظة نتدبرها ونمضي بها في حياتنا أفلا بذكر الله تطمئن القلوب فقد قال الله تعالي: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك علي الله يسير* لكيلا تأسوا علي ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور, الحديد:23,22]. و لقد رأيت من صاحبة قصة رماد اليأس كيف كانت مختالة فخورة بالدنيا حتي أوقعتها في مدارك ظلمات لا تجد لنفسها فيها نقطة ضوء تستضيء بها ولعل الله يهديها إلي حسن القرار. أما أنت لعل ما امتحنك به الله من مرض فيه خير لك في الدنيا والآخرة وقد صدق رسولنا الكريم فيما ورد عن محمد بن خالد السلمي, عن أبيه, عن جده, قال: قال رسول الله- صلي الله عليه وسلم-: إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله, ابتلاه الله في جسده, أو في ماله, أو في ولده, ثم صبره علي ذلك يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله رواه أحمد, وأبو داود. و من هنا تكون بداية طريق الأمل تسلكينه قوية مثابرة وحتما في نهايته سوف تصلين إلي الهدف بقدرة الله ورحمته أن يمن عليك بالشفاء والعودة إلي بيتك هانئة سعيدة والله الموفق.