جمع الكاتب الروسي تولستوي عدة آلاف من حكم المسيح ابن مريم عليه السلام في كتاب رائع أسماه إنجيل تولستوي واختار بنفسه الحكم التي رأي أنها تصلح للبشرية جمعاء من أناجيل كثيرة, وقال في مقدمته إنه يعمل بهذه الحكم في حياته, والمعروف أن عدد الأناجيل يقارب مائة لا يعرف منها أغلب المصريين إلا أربعة. واخترت اليوم بعض حكم المسيح ابن مريم عليه السلام المهمة وقد لا يتسع هذا المقال لسرد الكثير منها, ولكن القليل من ابن مريم النبي الزاهد الورع العابد المحسن يكفي لإصلاح أحوالنا المعوجة وهي تخاطب كشأن كل الرسل أهل الأديان والأعراق والملل جميعا لأنها في مجملها تدعو إلي فضيلتين هما الإخلاص والإحسان, وهما عزيزان الآن جدا في عالمنا الذي يموج بأسوأ الفتن. والإنجيل قائم علي الرموز والمجاز والإشارات وهو يحتاج لعقلية واعية تفرز الصواب من الخطأ وقلب يسع الناس بحبه حتي خصومه ونفس مهيأة للاحسان حتي للذين أساءوا إليها. فمن وصايا المسيح التي يحث فيها علي الرحمة لكي تكونوا أبناء أبيكم أي ربكم الذي في السموات كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم. ويحث علي السلام وينفر من الحروب قائلا: طوبي لصانعي السلام فإنهم يدعون أبناء الله أي الصالحين في الملكوت وهذه تحمل دعوة صريحة لحقن دماء الناس جميعا بلا استثناء. ويحذر من الزنا وكل مقدماته فيهتف في الناس وخاصة الشباب الذين يستهترون بالحرمات وقد سمعت أنه قيل للقدماء لا تزني وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلي امرأة يشتهيها فقد زني في قلبه. ويحذر من زني العين وكل الجوارح قائلا: فإن كانت عينك تعسرك فاقلعها وألقها عنك لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك من أن يلقي جسدك في النار. ويحذر من العدوان أو السرقة أو أكل أموال الناس بالباطل ويدعو إلي التطهر من هذه المعاصي ويعمد إلي المجاز وكأن بتر اليد التي تسرق أو تعتدي أفضل من أن تستمرئ تلك المعاصي فتهلك صاحبها, والمسيح لا يعني القطع بذاته ولكنه يعني أنها أخلت بوظيفتها وواجباتها فيقول: وإن كانت يدك اليمني تعسرك فاقطعها وألقها فخير لك أن يهلك أحد أعضائك من أن يلقي جسدك في النار فتري كم من الناس الآن يستحق أن يقطع بنفسه يده أو لسانه أو يقلع عينه إن لم يصلحها, وإذا كان هذا شأن زنا العين فما بالنا بالزنا الكامل واستحلال الفواحش تحت دعوي التحضر الكاذب, وكأن حضارة الغرب بنيت علي الفواحش ولم تبن علي العلم والتكنولوجيا والدقة والجدية. ويحذر من إدانة الناس بغير حق أو اتهامهم بغير دليل وكأنه يرسي الأساس للقاعدة الفقهية الإسلامية براءة الذمة فيهتف: لا تدينوا أحدا لأنكم عميان لا تبصرون الحق, آه يا سيدي ابن مريم كم من الأبرياء يدانون ويلقون في غياهب السجون بغير حق في كل العصور. ويحذر من ازدواج المعايير والكيل بمائة مكيال فيقول: ما بالك تنظر القذي في عين أخيك ولا تنظر الخشبة التي في عينك. وكان يحذر أصحابه من الانكفاء علي النفس أو الدوران حولها أو التعصب أو الظن باحتكار الحقيقة أو الهداية ويوسع دائرة الحب بين الناس حتي أنه يأمر بأن تحب خصومك السياسيين أو الفكريين أو الدينيين ويأمر بقمة الإحسان بحب الأعداء قيل للقدماء أحب قريبك كما تحب أخيك, أما أنا فأقول أحبوا أعداءكم, باركوا لاعنيكم, أحسنوا إلي مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم. لقد كان المسيح واضحا جليا يريد درجة من الهداية لم تحتملها طبائع معظم اليهود في عصره, ولذلك كان يسمي بالجلاد لأنه كان يكشف خبيئة النفوس ويدوس علي صديد الجروح بقوة ليفرغه ويطهر الجسد والروح من أدرانهما, فقد أتي بالإحسان وهو فوق العدل. وكان يدرك أن أصحابه وحوارييه سينالهم الأذي الكثير فكان يوصيهم: ها أنا مرسلكم مثل خرفان بين ذئاب فكونوا حكماء بسطاء أنقياء مثل الحمام, فسلام علي ابن مريم في العالمين وفي عليين.