الوضع المقلوب الذي تعيشه البلاد حاليا, هو نجاح الثورة في الاطاحة بالطاغية وأبرز معاونيه ولكن دون أن تتسلم السلطة في الحوار المحتدم حاليا في المجتمع السياسي والاعلام. حول مسألة الانتخابات أولا أم الدستور أولا تضيع في غيابات المناقشة وغبارها المتصاعد النقطة الجوهرية التي وصلت اليها ثورة25 يناير. فمن خصائص هذه الثورة أنها اندلعت واستمرت بلا قيادة تنظيمية وسياسية واضحة رغم أن هناك قوي محددة دعت الي مظاهرات25 يناير علي رأسها حركة خالد سعيد وحزب العمل وكفاية, فقد كانت استجابة الجماهير هائلة وفاقت معظم التوقعات( توقعت ألا يصل مبارك الي انتخابات رئاسية عام2011 وأن الثورة ستقوم قبل ذلك وقلت هذا التقدير لزملائي بسجن المرج, وكتبت عدة بيانات من السجن تدعو الي الثورة عقب التزوير الفاضح لانتخابات مجلس الشعب) وقد أدي هذا الاندفاع الهائل للجماهير الي الانتقال الي معركة الحسم مع حكم مبارك دون أن تكون هناك قوي منظمة مستعدة للقيادة من الناحية التنظيمية, ومن كانت لديه قدرة تنظيمية لم يكن يفكر أو يستعد للثورة! وبعد سقوط حكم مبارك لم يعد يمكن للأمر أن يستمر هكذا بدون قيادة شعبية معترف بها من عموم الناس. ولكن كان ذلك ممكنا عندما أعلنت القوات المسلحة أنها تلتزم بتسليم السلطة خلال6 أشهر وحتي عام بحد أقصي. ثم جري الاستفتاء وما تلاه من اعلان دستوري يضعان معا خطة تسليم السلطة للشعب. بانتخابات تشريعية ورئاسية وجمعية تأسيسية لصياغة الدستور. وبعد أن وافق الجميع علي الاحتكام للاستفتاء عاد الذين لم يوفقوا في الاستفتاء مطالبين بالغائه وهذا عبث. والآن وبعد4 شهور من الثورة فان هؤلاء يريدون أن يعودوا بنا الي نقطة الصفر. بالقول بضرورة البدء بالدستور علي خلاف ما جاء في الاستفتاء, وبغض النظر عن عدم الدستورية وعدم المعقولية في المطالبة بالغاء الاستفتاء فان المطالبة بذلك تعني اضاعة4 شهور من عمر الثورة, فاذا كنا قد بدأنا بالدستور( طبعا علي أساس جمعية دستورية منتخبة) كنا قد انتهينا من صياغته واقراره عبر استفتاء شعبي. وقد يقال وما4 شهور من عمر التاريخ, وأقول ان الفترة الانتقالية فترة حرجة ولايتعين اطالتها لأن الحكم الانتقالي شرعيته مؤقتة ومشروطة, والآن نري الحكومة الانتقالية تصنع حقائق خطيرة علي الأرض وتعيدنا القهقري الي عهد مبارك في شتي السياسات الداخلية والخارجية, وكل هذا يعد انقاصا وخصما من رصيد الثورة, فكيف نسمح باستمرار ذلك لمدة عامين. فهل يجوز للثورة أن تسمح بالتراجع لقواعد العهد البائد, لنبدأ الثورة من جديد وكأن شيئا لم يكن منذ25 يناير. هذا العبث يفت في عضد الشعب وقد يصيبه باليأس من جديد, وهذا مالا يجب أن تسمح به النخبة الثورية. فالثورة لاتضمن تحقيق أهدافها الا باصرارها علي تحقيق هذه الأهداف وليس التسويف فيها وكأن الزمن عنصر محايد. ثم كيف نقول بامكان تقدم الثورة الي الأمام بينما الحكومة المؤقتة تعود بنا الي الخلف: نفس السياسات الاقتصادية, نفس التبعية للخارج والاستدانة من الغرب, استمرار حصار غزة, التراجع عن قرار اقامة علاقات طبيعية مع ايران, المحاكمات العسكرية للمدنيين في قضايا التظاهر والاعتصام( وهذا لم يحدث في عهد مبارك!!), اعادة بناء جهاز أمن الدولة باسم جديد, استمرار علاقات التبعية مع الولاياتالمتحدة, اعادة ضخ الغاز لاسرائيل حتي بدون تعديل الأسعار رغم أن الثورة رفضت الضخ لاسرائيل من حيث المبدأ! الوضع المقلوب الذي تعيشه البلاد حاليا, هو نجاح الثورة في الاطاحة بالطاغية وأبرز معاونيه ولكن دون أن تتسلم السلطة, واذا كان للمجلس الأعلي للقوات المسلحة شرعية ثورية تستند الي حقنه للدماء والي وعده بتسليم السلطة خلال عام, فان هذه الحكومة المنبثقة من لجنة سياسات جمال مبارك قد فقدت شرعيتها تماما لكل الأسباب المشار اليها سابقا, ولكننا يمكن احتمالها حتي سبتمبر ولاداعي لتنظيم حملة لاستقالتها, حتي لاندخل في دروب جانبية. أما أن تستمر هذه الحكومة الفاشلة والمتواطئة أكثر من ذلك فهذا مالايمكن قبوله. الأمر الأكثر أهمية بلا منازع, هو انتخاب قيادة شرعية للثورة, وهذه هي الأهمية الجوهرية للانتخابات التشريعية, وليس أي شيء آخر. أما وضع الخوف من سيطرة الاسلاميين علي هذا البرلمان, فهذا يعني الانتكاس عن هدف الثورة الأسمي وهو الديمقراطية, فلايمكن اجتثاث الاستبداد الا بالانتخابات ومرجعية الشعب, أما الخوف من رأي الشعب فهو نفس موقف حكم مبارك, وأمريكا والغرب. شعبية التيار الاسلامي ظاهرة تاريخية لا مرد لها, ولا وسيلة للمخالفين له بمنهج الديمقراطية الا الحوار والمنافسة الشريفة وضمان تداول السلطة في المستقبل. بل ان الاسلاميين طرحوا دخول انتخابات مجلس الشعب بقائمة موحدة لكل التيارات المشاركة في الثورة, ولكن بعض القوي العلمانية ترفض هذا الاقتراح, فمن الذي يرفض التفاهم والتوافق اذن. والأغرب من كل ذلك أن المنادين بشعار الدستور أولا لايقصدون انتخاب جمعية تأسيسية كما فعلت كل الأمم عقب الثورات, ولكن يريد بعض المثقفين أن يجتمعوا ويقرروا المبادئ العامة للدستور ويفرضونها علي الشعب, ويحاولوا اقناع الحكومة بذلك وقد اقتنعت فعلا خاصة ان هذا الاقتراح سيطيل أمد وجودها في السلطة! ويحاولوا غواية المجلس العسكري بذات الاقتراح الاستبدادي, ولايزال المجلس متمسكا بموقفه حتي الآن, ونرجو أن يثبت علي هذا الموقف. والثورة لن تسمح لمجموعة من المثقفين لم ينتخبها أحد ولا للمجلس العسكري أن يضعوا الدستوربدون جمعية تأسيسية منتخبة. وكان يمكن لهذا الحوار ألا يكون له أي أهمية, ولكن يظل له أهمية بسبب عدم اقرار قانون انتخاب مجلس الشعب, وعدم تحديد يوم اجراء الانتخابات بشكل نهائي, وهذا التأخر ينذر بالخطر, لأنه يعني أن المجلس العسكري لايزال مترددا. فالوقت لايسمح بتأخير أكثر من ذلك اذا كانت الانتخابات في سبتمبر حقا. ان استمرار الثورة بدون قيادة شرعية منتخبة هو الخطر الرئيسي الذي يواجهها, ولاتوجد طريقة أخري لذلك الا عبر صناديق الاقتراع أو العودة من جديد للشارع في موجة ثانية للثورة, ونستعين علي الشقا بالله. رئيس حزب العمل كاتب سياسي